كتبت في الفيسبوك قبل اسابيع: "ها أن عام 2014 ينصرم، و حين انظر الى الخلف، ما كتبت و نشرت، اجد نفسي مثل مهرج سيرك يُضحك و لا يضحك". و هكذا قررت ان اكرس نفسي او بعضا مني لنفسي. و في هذا الاثناء صدرت مجموعتي القصصية "البقرة التي اكلت صورة السيد الرئيس" مطلع هذا العام بعد ان انتظرت ان تصدر في خريف العام الماضي و بذا توافق توقيتها مع مخططي أن يكون عام 2015 لي، لأنني كرست وقتا طويلا لكل شيء الا نفسي و آن لي أن اتفحص ما لدي.

البقرة التي اكلت صورة السيد الرئيس، القصة و المجموعة
صدرت هذه المجموعة عن دار ميزوبوتاميا العراقية التي يديرها مازن لطيف المتميز بنشاطه الثقافي الدءوب و احتوت ثماني عشرة& قصة و نصا، و حملت اسم "البقرة التي اكلت صورة السيد الرئيس" و هي في عين الوقت اسم واحدة من قصص المجموعة.
لكن المجموعة لا تبتدئ بهذه القصة انما بـ "الثري و الرسام" التي كتبتها كزميلتها "حماقة" في التسعينات و بقيت في الادراج. و هذه القصة تحكي معاناة رسام في الغربة يرسم موديلا لسيدة جميلة بطلب من احد محدثي النعمة الذي يريد أن "يقضي معها ليلة دافئة" حسب تعبيره.
يكمل الفنان اللوحة و يدفع له محدثُ النعمة مبلغا بائسا و يغادر، يعود الفنان الى غرفته و يشعر بالفراغ و يتضخم حجم& البؤس المحيط به كأنما يراه لأول مرة، يسخط على كل شيء ... ثم ينظر الى صورة الموديل الفوتوغرافية المثبتة على الجدار و التي استخدمها لرسم اللوحة و....
هذه القصة تعالج سيكولوجية محدثي النعمة و طرائق تصرفهم مقارنة بالصورة التي رسمها الفنان عنهم حين كان ينشط في بغداد السبعينات و يتردد على حانات الكرادة متطلعا الى الدور الفارهة قبل أن يزاح هؤلاء عن الصدارة الاجتماعية و يصار الى ترييف المدينة.
هذه القصة و قصص أخرى مثل "مونولوج أخير" و "ليالٍ من عاصمة كانت على قيد الحياة" أبطالها فنانون تشكيليون، تهتم بخصائص تكوينهم و انماط تفكيرهم و سلوكهم و ثيمتها الرئيسية، الطريقة التي توظف بها منتجات الفن التشكيلي في اطار المجتمع البضاعي و كارتلات صناعة الذوق، في مقابل معاناة الكثير من الموهوبين الحقيقيين،& لكنها عدا ذلك تنطلق من النموذج المفرد للاشارة الى تشوهات ذات نطاق اوسع اجتماعيا.
على أن قصة "حماقة" كانت عديمة المكان ففيها يشعر المنتحر (الذي من الممكن ان يكون في مكان او مجتمع) بأنه قد ارتكب حماقة حين يودع ظلمة القبر و يترك وحيدا. المفارقة تتجلى في أن القصة المكتوبة بضمير المتكلم تتيح للراوي ان يتحدث حتى بعد ان يطلق النار على نفسه فيروي لنا انطباعات شخص ينتحر "للمرة الأولى" كما يقول.
كيف اكلت البقرة صورة السيد الرئيس؟
كانت زوجتي تعمل في إحدى دوائر الدولة و معها زميلة تسكن احدى قرى الريف المحيط بالمدينة و لأبيها أبقار يتركها تسرح في المراعي و تعود للبيت عند المغيب، منها بقرةٌ سارت نحو الطريق العام الذي يقود الى العاصمة و اقتربت من الزهور و الحشائش التي تزين صورة الرئيس فأكلت منها، و حين لم تعد الى البيت و بحث مالكها عنها وجد انها قيد الاحتجاز لحين مجيء صاحبها الذي وُضع هو الآخر قيد الحبس حتى قدم تعهدا يضمن فيه أن لا تقترب بقرته في المستقبل من الممتلكات العامة. "لكنها لم تأكل الصورة نفسها" هكذا سأل برعب لانه يعرف أن الابقار تأكل الاقمشة ايضا.....
تنطلق القصة من الحادثة و تروي كيف يمكن ان تتحول هذه الثيمة الى مسرحية.

قصص أخرى
"أي بلد هذا الذي ليس فيه نخيل" تتحدث عن ملابسات الغربة باسلوب التداعيات و السرد المتدفق و يشهد النص انتقالات سردية ذات ازمنة مختلفة و انقطاعات. اُهديَ النص الى علي جبارة الذي يصفه النص أنه احد ملامح القرية التي قضى فيها حياته و التي كان فيها شبه مشرد ، مسلوب الارادة يعذب نفسه محاولا الابقاء على ضميره يقظا و في زمن شهد انحطاطا عاما.
في "وحشة البيوت المهجورة" نجد النص ينقل مشاعر بيت مهجور. البيت و ما فيه يتحدثون معبرين عن الألم و الشوق و الافتقاد، يروي البيت بنفسه ما جرى فيقول انه يفتقد اجتماع العائلة على الفطور ايام الجمع و حديثهم و مرحهم و حتى انفاسهم التي كانت تعلق بخاراً على زجاج الشباك، تشاركه في السرد محتويات البيت، فاللوحات تقول انها تفتقد من ينظر اليها و يتحسس مواطن الجمال فيها ، من يرعاها و يزيح عنها الغبار، الكتب تشتاق الى من كان يقلبها و يفك مغاليق كلماتها ، نبتة عطر الشبوي في الحديقة تفتقد الإطراء الذي اشعرها بالنشوة و تتذكر مشاكساتها للنسوة المارات. حولت القصة البيت و محتوياته الى كائن ذي احساس.
ربما "يسأل اسئلة مجنونة من يكتب كتابات مجنونة" تكون الاكثر غرابة بين المجموعة القصصية ففيها الكثير من الخيال و السوريالية. أما في "ضوء الموت الساطع" فيتحدث الكاتب مع تجربته مع الموت و كم كان عليهما ان يتقابلا وجها لوجه. و في النبذة عنه يذكر الكاتب على الغلاف الأخير ان هذه القصة& "هي افصح من يجيب عن سؤال من أنا؟"
تكاد تكون "قرية البرتقال" مقاطع من رواية اكثر مما هي قصة قصيرة تتحدث عن القرية التي ولد و ترعرع فيها الكاتب (يهرز) و كيف انها كانت في الغالب تعيش على ما تنتجه البساتين و خصوصا البرتقال و التمور. كانت الملكية الصغيرة و الدخل الميسور قد ساعد على نشوء وضع اجتماعي وثقافي ذي خصائص محددة ترافقت مع بقايا مجتمع ابوي يكون فيه كل من في القرية مسئولا عن الآخر و جزءا من نسيجها الاجتماعي الذي تميز بالهدوء و العزلة و الاعتداد بالذات قبل أن تؤدي التطورات السياسية الى التمزق الاجتماعي و خراب البيئة. النص يتوفر على تشخيصات ذات نكهة سيوسيولوجية لنوع العلاقات السائدة في منتصف القرن الماضي.
و في "فاطمة" يستذكر الكاتب ما كان يسرد عليهم من قصص الجن و الطناطل ثم يربطها بالحوادث المأساوية الاخيرة و العنف الطائفي الذي تسبب بفقدان العشرات من الابرياء لأرواحهم و ممتلكاتهم و يستفيد مما كتب على صفحات التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك و يرى أن الطناطل( و هي كائنات خرافية من نسج الخيال تبعث على الرعب) قد عادت و انبعثت من القص الشعبي الى عالم الواقع و اشاعت الدمار.
قصص أخرى مثل "في الحافلة" 1، 2 و 3 هي قصص مكتوبة كحال قصة "في القطار" من وحي الغربة حيث يعيش الكاتب في العاصمة الالمانية برلين.
في الحافلة 1 يجلس رجل متأملا جمالا لم تمحه السنين لامرأة في المقعد المقابل تصغره ببضع سنين، المرأة لا تحس به بل تنظر الى رجل واقف في المسافة بينهما يصغرها ببضع سنين ، الرجل لا يشعر بها انما ينظر الى شابة تصغره ببضع سنين ، الشابة لا تكترث له و لا لهم جميعا و تقرأ في كتابها. عند الفتاة الشابة تكون السلسة رباعية التكوين ذات الاتجاه الواحد قد انتهت بحيث لا يوجد اهتمام متبادل بين الشخوص انما اهتمام من طرف واحد فقط دون ان يبادله الطرف الآخر نفس الاهتمام في علاقة اشكالية.
"في القطار" يجلس في المقعد الذي يقابله رجل مشرد رث الملابس كث الشعر و اللحية ينظر بانكسار ، ينظر هو اليه و يتعاطف معه فيقوم باصلاح مظهره ، يحلق لحيته و يصفف شعره يستبدل ملابسه بجديدة و حين يغادر يودعه بثقة ، و لكنه هو نفسه يكتسب صفات المشرد، فحين ينظر في زجاج شباك القطار قبل ان ينزل في المحطة التي يقصدها يجد ان شعره قد شاب و لحيته باتت كثة و ملابسه رثة و علت التجاعيد و وجهه و فقد ذاكرته متسائلا : من انا و ماذا افعل في هذا المكان؟
&