يمثل كتاب "فلسفة العلامة.. من جون سانت توماس إلى جيل دولوز" الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد مؤخراً، للدكتور رسول محمد رسول، قيمة معرفية جديدة على صعيد فتح الأفق الفلسفي للمعرفة السيميائية التي تبدو للجميع مجرد معرفة جمالية أدبية لغوية فحسب، بينما يكشف هذا الكتاب عن اهتمام الفلاسفة العميق بالمعرفة السيميائية، فبحسب المؤلف عندما أصبحت العلامة جوهر المعرفة السِّيميائية (Semiotic knowledge)، والحجر الأساس في منازلها، فإنها راقت للفلاسفة بأن تكون موضوعاً لتأمّلاتهم عبر القرون، لكن تلك التأمُّلات ما التحمت في سياق معرفي إلا في العصور الحديثة، وذلك عندما عمل الفيلسوف واللاهوتي البرتغالي جون سانت توماس أو "جون بوانسو"، في الثلث الأول من القرن السابع عشر، على إظهار لبناتها الأولى من خلال أبحاثه الفلسفية، وتحديداً المنطقية منها. وبعد توماس انتبه الفيلسوف الإنجليزي جون لوك إلى أهمية السِّيمياء فأفرد لها بعض وقته، واقترحها علماً قائماً برأسه، وكانت محاولته تلك فجراً مضاعفاً للسِّيمياء بعد الفجر الذي سار في دروبه جون سانت توماس قبله.
وأضاف أنه "لما كان جون لوك قد ضربت شهرته الآفاق في زمانه، فإن معاصره الألماني "جوتفريد فلهلم ليبنتز" كان قد جارا وحاكا صديقه لوك في المسعى الفلسفي لدعم المعرفة السِّيميائية، إلا أن ليبنتز، ما كان أصيلاً في مسعاه حتى تُرك الأمر إلى الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبس الذي خاض، بدوره، في أتون العلامات والمعرفة السِّيميائية على نحو كشف عن مراس فلسفي تتلاقى فيه اللغة مع الكلام.
يقول د.رسول في مقدمة الكتاب الذي جاء في 484 صفحة من القطع الكبير، وتضمن اثنا عشر فصلاً غطى بها رحلة المعرفة السيميائية من بذورها في العصر الحديث حتى نهاية القرن العشرين "كان أفلاطون وتلميذه أرسطوطاليس من الفلاسفة الباكرين الذين أدلوا بدلوهم الفلسفي في مسائل العلامات، وكانت العلامة موضوع حوار فلسفي لدى الشَّكيين والأبيقوريين والرواقيين الذين قالوا بالدال والمدلول، وتلا ذلك مناقشات الأفلاطونية المحدثة للعلامة ومنهم أفلوطين (205 – 275 م)، ومن ثمَّ القديس أوغسطين (354 – 430 م) الذي طوَّر نظرية بسيطة في العلامات العُرفية، وتبعه وليام الأوكامي (1288 - 1348) الذي نظر في العلامات الذهنية، وجهود جون بوانسو (1589 - 1644) أو جون سانت توماس غير المسلَّط عليها الأضواء، ومساهمة جون لوك (1632 - 1704) التأسيسية الذي عدَّ البحث في الدلالة أساساً جديداً للمنطق الحديث، وكان أول من استعمل مصطلح (Semiotike) أو مذهب العلامات بحسب تعبيره، وعدَّه أحد العلوم في شجرته للعلوم بأغصانها الأربعة التي صنَّفها في كتابه (مقال في الفهم البشري)، (1690)، وخصَّ العلم الرابع& - مذهب العلامات - بتعريف حقلي حيث عرَّفه بأنه "العلم الذي يدرس طبيعة العلامات التي يستعملها العقل لفهم الأشياء وتوصيل المعنى للآخرين"، ليأتي الفرنسي جوليان لامتري (1709 - 1751) ويبحث في علاقة اللغة والتخيُّل بالعلامات من حيث نشأتها البدائية كعلامات عددية (Numerical Sign) كان منها علم الحساب، والعلامات الجسديَّة أو العلامات الخارجية (External Signs) المعبِّرة عن مشاعر وأهواء مختلفة كالندم على سبيل المثال، وصولاً إلى تشارلز بيرس (1839 - 1914) الذي قعَّد المعرفة السِّيميائية على أسس فلسفية نذر حياته لها، من خلال المنطق الذي عدَّه في معناه العام "علم الفكر الذي تجسده العلامات بوصفه سيمياء عامة"، ما يعني أن "المنطق بمعناه العام ليس سوى اسم آخر للسيمياء". وبذلك فإن السِّيمياء هي جزء من العلوم المعيارية الثلاثة: المنطق وهو علم الخطأ والصحيح، والأخلاق وهو علم الخير والشر، وأخيراً الجمال وهو علم الجميل والقبيح. وإدموند هوسرل (1859 - 1938) الذي عمل، هو الآخر، على ترصين القراءة الفلسفية للعلامات منذ بداية القرن العشرين في سياق دراساته المنطقية قدر تعلُّق الأمر بدراسة العلاقة بين التعبير والدلالة في إطار المنطق الفينومينولوجي. ناهيك عن تجارب فلاسفة آخرين مثل مارتن هيدغر (1889 - 1976)، وجيل دولوز (1926 - 1995)، وجاك دريدا (1930 - 2004)، وغيرهم".
ويرى أنه على أبواب القرن الحادي والعشرين تبدو السِّيميائية (Semiotic) بوصفها معرفة قد قطعت أشواطاً من العمل الدؤوب وهي تشيِّد كيانها المعرفي. وعلى رغم أن جذور السِّيمياء تمتدُّ زمنياً إلى ما قبل سقراط، تمتد إلى اليونان القديمة عندما كانت العلامة (Sign) مدار بحث وتأمُّل بين عدد من فلاسفة الحكمة في ذلك الزمان، إلا أن القرن السابع عشر فتح آفاقاً جديدة لها، تلك الآفاق التي صارت ذخيرة معرفية لعدد من فلاسفة نهاية القرن التاسع عشر الذين استلهموا تلك الذخيرة وهم يمضون شطر القرن العشرين، قرن المعرفة السِّيميائية بامتياز. وعندما أصبحت العلامة جوهر المعرفة السِّيميائية (Semiotic knowledge)، والحجر الأساس في منازلها، فإنها راقت للفلاسفة بأن تكون موضوعاً لتأمّلاتهم عبر القرون، لكن تلك التأمُّلات ما التحمت في سياق معرفي إلا في العصور الحديثة، وذلك عندما عمل الفيلسوف واللاهوتي البرتغالي جون سانت توماس أو (جون بوانسو)، في الثلث الأول من القرن السابع عشر، على إظهار لبناتها الأولى من خلال أبحاثه الفلسفية، وتحديداً المنطقية منها. وبعد توماس انتبه الفيلسوف الإنجليزي (جون لوك) إلى أهمية السِّيمياء فأفرد لها بعض وقته، واقترحها علماً قائماً برأسه، وكانت محاولته تلك فجراً مضاعفاً للسِّيمياء بعد الفجر الذي سار في دروبه جون سانت توماس قبله، ثم كان جون لوك الذي ضربت شهرته الآفاق في زمانه، ومعاصره الألماني (جوتفريد فلهلم ليبنتز)، ثم جاء الفيلسوف الإنجليزي (توماس هوبس) الذي خاض، بدوره، في أتون العلامات والمعرفة السِّيميائية على نحو كشف عن مراس فلسفي تتلاقى فيه اللغة مع الكلام.
ويوضح د.رسول أنه في ضوء ذلك، لم تعد المعرفة السِّيميائية، وكذلك النَّظر في العلامات، حالة متطفلة على الفلسفة فكانت التجارب الماضية موروثاً تم استعادته من جانب فلاسفة نهاية القرن التاسع عشر، ومنهم الفيلسوف الأمريكي تشارلز بيرس الذي تأمَّل ما أنجزه جون لوك في القرن السابع عشر حتى استلهمه، ومضى به إلى نتائج باهرة عندما قعَّد المعرفة السِّيميائية على أصول فلسفية رصينة. وفي الوقت الذي انبرى فيه الفيلسوف الألماني (إدموند هوسرل) ليصول باحثاً في ماهيَّة العلامات من خلال منهجه الفينومينولوجي، ومن حيث المزاوجة الجديدة التي دشنها هوسرل بين الفينومينولوجيا والسِّيمياء مطلع القرن التاسع عشر؛ في ذلك الوقت، كان عالم اللغويات السويسري فردنان دي سوسير قد أدرك رصانة وتاريخية مقترح جون لوك فعمل على استلهامها في محاضرات تم جمعها بعد وفاته، حيث تأسيس العلاقة بين السِّيميائيات واللغة، واعتبار اللغة جزء من علم العلامات (Semiology).
ويؤكد د.رسول أن تلك التجارب كانت ذات أهمية قصوى في تاريخ المعرفة السِّيميائية، خصوصاً تجربة سوسير التي فتحت آفاقاً واسعة للسِّيمياء ومباحث العلامات في القرن العشرين، إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فقد أدلى الفيلسوف الألماني "مارتن هيدغر" بدلوه في هذا المجال، وذلك عندما قاربَ فيلسوف الغابة السوداء بين العلامة والوجود، الأمر الذي كان منه تلاقي السِّيمياء بالأنطولوجيا على نحو تأصيلي، وهو ما استلهمه الفيلسوف الفرنسي "جاك دريدا" الذي نذر حياته لنقد العلامة وتعرية أصولها الميتافيزيقية وهو يجادل سوسير وهوسرل في أول محاولة نقدية تكشف عن البنية الحجاجية التي طالت المعرفة السِّيميائية. على أن الأمر لم يكن خافياً على الفيلسوف الفرنسي "جيل دولوز" الذي ولج عالم العلامات من باب القراءة السَّردية التي كرَّسها لرائعة مارسيل بروست (البحث عن الزمن المفقود)، (1913 - 1927)، ومن ثم انفراده ببناء رؤيته السِّيميائية للعلامات في ضوء مفاهيم العُمق الاشتدادي، والاختلاف والتكرار، والملاقاة.
لقد بحث المؤلف في كل فصل من فصول كتابه ما سبق بالتفصيل، ليخصص الفصل الأخير للنَّظر في أصل العلامات، ومن ثم معنى العلامة من منظورنا الخاص بنا.
إن كتاب (فلسفة العلامة) يأتي بعد مخاض قرائي امتد لأربع سنوات سبقتها أعوام انهمكنا فيها بدراسات تطبيقية لمناحي البُعد السِّيميائي والعلاماتي في عدد من النُّصوص السَّردية، الروائية والقصصيَّة العربية في عدد من كتبنا، مثل: (الجسد في الرواية الإماراتية)، (2010)، و(العلامة والتواصل)، (2011)، و(اللمس والنظر)، (2013)، و(الأنوثة الساردة)، (2013)، و(شعرية المؤدى السردي)، (2014). إلا تخصُّصنا في الفلسفة الحديثة زاد فضولنا لكي نتعرَّف أكثر على القاع الفلسفي للمعرفة السِّيميائية؛ القاع شبه المجهول في القراءات السِّيميائية العربية الحديثة. ولذلك ترانا نعتقد أن كتابنا هذا سيردم بضع فجوات مًستفحلة بين ما هو سيميائي وما هو فلسفي؛ الردم الذي سيضعنا عند أدوار المعرفة الفلسفية عبر العصور في بناء العلامة وعلمها السِّيميائي".

&