"لم تكن سوى فتاة بكماء ".، قالها لصاحبه وهو منزعج ثم تركه ورحل، ليسير فوق كلمات من الجمر ولا يعرف كيف أدخل نفسه في هذه المتاهة الواسعة وخلف أي فكرة يبحث.

وفجأة بينما كانت تأخذه خطواته من طريق إلى آخر استوقفه هدوء المكان من حوله الذي وصل إليه، سكون الأوراق الخضراء فوق الأشجار الكبيرة وخلوها من العصافير، فأخذته أسئلته نحو تلك الشجرة التي كبرت عند نهاية الشارع الذي سار به البارحة، حيث كانت السماء صافية وهادئة وكأنها تستمع إلى حبيبها وهي تنظر في عينيه، ولكن على حين غفلة وبينما كانوا المارة بهذا الطريق تحت رؤى واضحة انقلب الهدوء إلى شيء يرعب القلوب و كأن أحدهم حطم الصمت الذي كسى الليل فبات يفرغ غضبه على الناس ويزجرهم بصوت الرعد لكي يتصادموا ويخرجوا أنفسهم من تحت ذلك الظلام، فيرق قلب السماء بين حين وآخر فتظهر شيئاً من نورها، وبين الخوف الذي يحرك الجميع فيتدافعون ليجدوا مكاناً يضمهم& بعيداً عن عاصفة المطر تقف فتاة تنظر لذلك النور الذي يشق صدر السماء، فيشدها بيديه لتقف معه تحت تلك الشجرة وهو يصرخ بوجهها : هل كان البرق جميلاً إلى درجة أن تقفي وسط الطريق ؟ أجننت.. ألا ترين الناس تخبأ نفسها من هذه العاصفة و أنت تقفين تحت أمطارها كطفلة تائهة ؟!
لم ترد و أكتفت بالنظر إليه من تحت شعرها المبلل و المنسدل على ملامحها، فأعاد سؤاله : ما بك ؟ لماذا لا تردين ؟
ضمت نفسها بابتسامة دافئة بمجرد أن مرت ريح باردة حملت مضلة امرأة كانت تمر بهم ثم وقفت بجانبه، وهي تنظر إلى تلك الكتب و الأوراق التي يضمها كطفل بين ذراعيه.
فقال : لدي اختبار ولولاه لما خرجت، لكن أحلامنا هي من تجعلنا نترك أماننا ونركض خلف المجهول& !
وبينما هو يحاول سرقة الهواء ليحبسه بصدره الذي ذاق بهذه الفوضى ، اصطدم به رجلاً مستعجلاً فسقطت أوراقه تحت قدميه، فراح يقبض بيديه على عنق ذلك الرجل، والنار تشتعل في عينيه، فوضعت يدها على يده بهدوء ثم أشارت نحو ذلك الزحام، نظر إليها وهو لا يعي مقصدها، فنزلت أمامه و جمعت الأوراق ثم راحت تترك نفسها تحت المطر تقبل ذراته الصغيرة و تفتح ذراعيها لتحتضن السماء و تشكرها على كرمها، فترك الرجل ليأخذ من يدها تلك أوراق التي أخذت تغتسل معها بتلك القطرات الباردة.
أخذهم من يديها، فاقتربت منه و أخرجت قلماً من جيبه، ثم وقفت أمامه ونظرت في عينيه مبتسمة وهي تراه يسل رمشه كالسيف أمام نظرتها، وتكتبت بعدها على معطفه بجانب قلبه : هذا المطر ضيفاً لطيفاً نزل على قلوبنا، لنجدد به أحلامنا، فلا تبخل على نفسك وتقف عند حلم ماض ربما كان لا يليق& بمستقبلك، لا تقل محت حلمي بل لقد أتت هذه الأمطار سخية و تركت تختار فصلاً جديداً لحياتك، فافتح قلبك.
ثم وقعت : بكماء.. وبعدها اختفت.
&