&

لا يبدي النص علاماته ومثله الجمالية إلا حين يحقق رؤية ما، أو يومئ إلى حالة ترتبط برسالة أو مضمون أو وجهة دلالية معينة. فالنص الشعري ليس مجرد كلمات تركّب خارج وعي الحالة الشعرية، بل إنه ينطوي على اجتهادات رائية وأسئلة تستقصي بواطن الواقع من جهة، ومكامن الذات الشاعرة من جهة أخرى. لأن النص الشعري على أقل تقدير يشتغل على مساحات أخرى يشكلها هذا التواصل الحميم بين وعي الذات ووعي الواقع، والوعي هنا بصيغته الفلسفية والسيكولوجية لا الجمالية والتعبيرية فحسب.
&إن القراءة النقدية حين تحتفي بالكامن في النص فإنها تجعل الكلمات إشارات وعلامات وضيئة للوصول إلى هذا الكامن والخفي والباطني. ومن هذا السعي للوصول إلى الكامن نقترب مسافة أولية من ديوان:" مفردة" للشاعرة ريتا باروتا وهو ديوان يحمل من الباطني ما يجعلنا نستقصي عباراته أكثر ونتأمل في كثافة نصوصه.
&ربما يفسر الإهداء الأولي بالديوان لأول وهلة حالة من القهر من الواقع، فإذا ما كان الإهداء يشير إلى ذكرى ما أو إلى حالة فرح جمالي، فإن الشاعرة حولته إلى علامة أسى دالة، وإلى علامة " قهر" وهو ما سنجد دلالاته المتسعة في نصوص الديوان بعد ذلك.
&يكمن الغيبي في الإهداء، تشير إليه الشاعرة بدلالات موتية، :" إلى حين تمضون في بقائكم الأخير/ إلى حيث الرمل والتراب واحد، إلى ثوابت أعماركم خلف توابيت العانة، إلى كل ما تحملون من قوارض في بؤبؤكم، تحية متوترة بعض الشيء، لو فقط تدخلون عظامي وتتعفنون مثلي داخلي، وتغلق المقابر إفلاسا .. هذا القهر بات يشبهني" . الكامن الغيبي انعكس على الذات التي أصبحت مقهورة، وفي الآن نفسه تشبه نفسها. هنا نسترجع عنوان الديوان:" مفردة" هل يشير إلى هذه المفردة تحديدا التي تتوالى بصورة أو بأخرى في معان أخرى قريبة كالموت، والألم، والحزن، والرحيل، أم أنها تشير إلى الشاعرة نفسها، أو إلى ذاتها الشاعرة التي تعاني من الوحشة في زحمة هذا الوجود، وتعاني من الوحدة، والانفراد فتشير إلى نفسها بهذه الكلمة:" مفردة" أو أنها رؤية ذاتية خاصة للعالم تقدمها هذه ال" مفردة" العائشة مع ذاتها؟!

بنى متعددة:
في ال (31) نصا التي يضمها الديوان ( النهضة العربية، بيروت 2014) تقدم الشاعرة نصوصا متعددة البنى ما بين القصيرة الفلاشية التي تتكون من سطرين، إلى النصوص ذات المقاطع أو المشاهد المتعددة، ولعل هذه البنى تصنع نوعا من الدراما الشكلية – إذا صح التعبير- ما بين نص ونص، وتعطي مساحات بصرية عبر فراغ الصفحات تتسلل من حولها الطاقات المشعة لدلالات النصوص.
&تبحث الشاعر عبر هذه البنى عن الغائب، والكامن، عن الابعاد داخل الأبعاد، لذا فإن القراءة التوعية المركزة المتأملة معا هي ما تحتاجه قراءة نصوص الديوان.
&تبدأ الشاعرة بنص بعنوان:" كهناك" فأي شيء يشبه ال " هناك" ؟
&إن التشبيه هنا تشبيه مكاني، بيد أنه غير محدد المكان، هناك فحسب، في هذا البعيد القصي تتشبه الكلمات وتتقنع وتتلاقى أو تتنافر. ومع ذلك لا يعطي ال هناك قدرا من الجمالية المحتملة أو المتخيلة، لكنه يقع على رؤية الذات المهمومة التي تتقيأ أحزانها:
جملة وتفصيلا أسيحُ
كسائح أخرق أمام حماقة المطر.
إنها تمطر هنا كهناك
والفولاذ نفسه يغسل المبرة، فالمجرة فالأسباب.
القطط تتبلل أيضا، ولا تخجل من لعق إثمها
اسمك خجل من لون آخر، سيقان من داء
من أشياء قيلت كي يختنق ما في الهواء، وأصبح أنا
قيئا من نوع آخر
يُلعقُ . / ص 7

&في المشهد الذي تزجيه الشاعرة في ال " هناك" يمتزج المتخيل القصي مع القريب، والصغير البسيط مع الكبير اللا متناه:" الفولاذ، المبرة، المجرة" في مشهد المطر الذي يسقط هنا وهناك. الشاعرة تركز على ذاتها بالنهاية. الأنا التي تحضر آخر النص، تتلقف كل الذي تمطره الدلالات بكبيرها وصغيرها جملة وتفصيلا :" أصبح أنا قيئا من نوع آخر يلعق" . ما الذي أوصل النص إلى القيئ بعد كل هذا المطر؟ الذي أوصله هو هذه الذات التي تشعر بقهرها وباغترابها، وتشعر بالعدم واللا جدوى والسدى، وهي الحالة المهيمنة على أغلب النصوص.
&لا يوجد مكان للفرح – على الأغلب- في نصوص ريتا باروتا، فهي تؤاخي القهر وتشارف العدم، وما هذه المفردات التي تتجلى في النصوص إلا كلمات راغبة في الرحيل، لا بحثا عن ملاذ ما كما يتشوق الشعراء عادة، ولكن بحثا عن عدم آخر تتساوى فيه الأزمنة& والأمكنة والغيبي بالواقع.
&في مشاهد كثيرة نشعر بهذا الألم الذاتي ، في" أطعمة مختصرة" ص 13 " أعود للموت كمن يسرق خبزا مقددا أخضر، يختصر الكفن برائحته، أعود فأجده ممددا فوق ألم، كان يوما يشبه امرأة" .
&أو :" أغني للضباب، للرحيل ، للتراب، لرائحة أحد ما يسرق من عنقي نبضا، ويبيعني حلوى بطعم الندم، تُمضغ صراخا" / ص 14
ولعل في وجود كلمات مثل:" العدم، الأضرحة، المقابر، الكفن، التابوت، الموت، ... إلخ" ما يؤذن بالقول: إن لحظات الغياب، لحظات البحث عن الميتافيزيقي تشكل دالة مهمة من دوال الديوان. كأن الذات تريد أن تخرج من شرنقة الواقع وصخبه المتكرر، وهو صخب مأساوي كما تدل نصوص الديوان، ومنها هذا التعبير:
قيل إن الماء فالتراب فالأجل
أشياء أخرى ستحدث غدا
لا مكان للأزرق الذي يزيد العمر قبحا
لا مكان لي
في المكان
فالزاوية ستضيق
وسيسقط المنديل
وسوف أضحى صدأ / ص.ص 64-65

في قصيدة ريتا باروتا نبراتُ دهشة، وفيها عناق بين مختلف الحواس، أو ما يسمى رمزيا ب: " تراسل الحواس" حيث تتبادل الحواس وظائفها الدلالية من مشهد لآخر، فيما يتجلى في الخلفية الإدراكية لتعبيرات كثيرة مهيمنة حس سوريالي ، لكنه حس مسنون، وموشوم بالتمرد على أشياء الواقع وأحداثه.
&الشعر هنا لا يحتفي بحدث ما قدر احتفائه بحدث الذات نفسها.
&فضلا على ذلك فإن الشاعرة تقوم أيضا بتفعيل التشخيص والتشييء في تبادل بين الشيء وما هو إنساني، فيصبح للمذبح وجنة، وللحكاية أكتاف، وللمداس مقل، وللمجون يدان، وللأريكة سيقان، وللأرق بطن، وهكذا في سعي جمالي لامتلاك أسلوب تصويري معين تجيد فيه الشاعرة الربط بين حواس الكلمات نفسها، والحواس في بعدها الرمزي.
&تقول في :"أحلام الجدار":
للمجون يدان
ووجه ساقطة تنتحب تحت الجلد
للمجون أموات
يستلقون على مقربة من الضياع
على مقربة من اسم
يسير عليلا
بين الرئتين
للمجون مدينة
بابها
أقفاصي وأهدابي
وشيء من نعل
يرجم السماوات. / ص.ص 80-81

النص هنا يسعى وراء غياباته، وهو يربط رمزيا بين حالة مجون متخيلة وبين الموتى، وهو ربط يرى أن للمجون مدينة، وللمجون غوايته التي تطل من الذات نفسها التي تعاني الضياع. ثمة تشبيه مشهدي جلي يضع الذات في جهة وتجليات المجون ودلالاته في الجهة الأخرى، والمجون حالة من الغياب، حالة من إدمان الحزن الذي يفضي إلى مخاصمة الواقع ومفارقته. إنه فعل تمرد حتى لو كان تمردا ضد السماوات. هي حالة ذات لا تجد خلاصها إلا برصد هذا الغياب.
&إن الشاعرة هنا لا تفترض واقعا مأزوما، من صنع تخييل النصوص، ولكن هذا الأثر المأساوي للحظة يعطي أن الذات الشاعرة تتأثر إلى حد بعيد بما يحدث بالواقع، وتعطي أن ثمة ذات متضامنة، بيد أن هذا التضامن لا يأتي بشكل تسليمي، لكنه يأتي بشكل متمرد. والشاعرة حين تكتب هذا التمرد إنما تسعى في التأويل الأخير للنصوص إلى البحث عن واقع آخر، بغض الطرف عن الكينونات الشعرية التي تقدمها في حالات الغياب أو حالات العدم.

الوعي السينتمنتالي:

الذات الباحثة عن أفق آخر، بتمردها، ومجونها، بأسئلتها وهواجسها، هي ذات سينتمنتالية وجدانية عاطفية بالتأكيد لأن الواقع الراكض المتسارع لا يقدم هذا الوعي، بل يقدم صخبه وأحداثه المتلاحقة، وفي واقعنا العربي هي أحداث مأساوية على الأغلب، خاصة أن اللحظة العربية تمر اليوم بحالات من التوتر والقلق والألم البارز والكظيم معا. الشاعرة تبحث عن وعي آخر ووجود آخر، وهي لذلك تسعى لتكيل اللحظات الوجدانية التي تقترفها الأنا، وتقدمها لآخر قارئ له أيضا أن يعيش هذه اللحظات يكاشفها ويخامرها.
&في نصوص كثيرة تسعى الشاعرة لخلق هذا الوعي، في تعبيرات متعددة تأخذ شكل البوح الذاتي المباشر تارة أو شكل البوح الضمني الرمزي تارة أخرى.
&في نص:" مشيئة الكؤوس" تقول ريتا باروتا:
أبكيكَ
...
أستوقفكَ عند فاصلة الحنجرة
أسألك رحيقا
بطعم الحطام
بطعم مشيئة فمي
ومواسم الولع
عرقك
يراقص أرقي
فيضجّ الرحم

أشياء صغيرة
كالصلوات. / ص.ص 76-77

الحاجة ماسة هنا لحضور الآخر، وإن كان يأتي في البدء في حالة البكاء. الآخر العاطفي، الآخر الحميم، الآخر الذي يلهو بمجازات الشبق حين يضج الرحم، كأن الرحم يتخيل أيضا، الآخر الوجداني يحضر في كثافة المشهد، ليتحول في النهاية إلى فعل عاطفي مقدس كالصلوات.
&ويتدفق هذا الفعل واعيا بأشيائه الصغرى، وتفاصيله الحميمة:
أحلم بمن أتى يوما حاملا منك إليّ
وعدَ السجين بشمس وراء باب
بعهد صار فغاب
ليعود ويغسلك بي
ويضحك كالأشواق، قرب كل عطر منك
وانس أن من كان كان
وتذكر أن صباحي لم يلقك بعد
فاصبح.
لا يفارق هذا الفعل العاطفي نصوص المرأة بوجه عام، لكن المرأة الشاعرة أحدثت قطيعة بين رؤيتها للآخر الرومانتيكي وتعبيراتها الرومانتيكية البسيطة إلى تفكيك الرجل – إذا صح التعبير- إلى التمرد على هيمنته الغزلية التي وضعت المرأة في إطار الصمت الدائم، وفي إطار البحث عن الرغبات. الشاعرة لم تعد منذ عقدين على الأقل تنتظر هذه العطايا الوجدانية التي قد يحولها الرجل إلى منة رومانتيكية، لكنها كسرت هذا الصمت وأصبح التمرد عنوانا لأنوثتها بما تشير إليه دراسات نسوية كثيرة في هذا المجال خاصة لدى إلين شوالتر ، تمثيلا.
&إن الشاعرة تنهمك في تقديم وعي آخر، فالانتظار لم يعد للآخر:" انتظاراتي قليل من عويل، يضاجع انتظاراتي" والموضوع الشبقي لم يعد حكرا على الرجل خاصة في ذكر المفردات الإيروسية، كما رأينا عند شاعرة أخرى مثلا هي رانيا خلاف، أو لدى جمانة حداد، ومن قبلهما : ظبية خميس،& فحين نعثر على هذه التعبيرات:" شوارع جسدي هجرتها الأرصفة فسكنها غراب أحمر كئيب" و" بكت مريم حين أتاها الشبق، بكت حين سقط الحجاب عن الحجاب فرأت مستحيلا ذا شعر أسود" سأرحل عن جثتي أتركها لماء الصمت ، لماء النهد المتكئ على ذكرى" " أعوذ بالله من رائحة تسللت خفية داخل سرتي لتتوضأ باللهفة وتبكيني" نتيقن أن ثمة رؤى نسوية أخرى في موضوعة :" الرجل" فالآخر لم يعد مهيمنا حتى في التعبير عن العلاقات الحميمة، وعن تواتر الدلالات الشبقية، بل لم تعد هذه المسألة في كتابات اليوم لدى المرأة تمثل فعلا جريئا بل هو فعل يتواءم وصيروة الكتابة والكشف.
&إن " مفردة" ريتا باروتا تلوذ أكثر بالذات، وتنتظر انتظاراتها هي، وعلى الرغم من هيمنة دلالات الغياب على النصوص، والاحتفاء بدلالات الموت والأضرحة والقبور والتراب، إلا أن ذلك لا يعطي بالضرورة مشهدا للتشاؤم ونفي الواقع كلية، لكنه يبحث عن واقع آخر أكثر ألقا، وأكثر إصغاء لمفردة الأنثى.

&