في رسالة خاصة من معهد ومتحف فلاديمير فيسوتسكي في مدينة كوسالين البولندية الواقعة شمال غرب بولندا بالقرب من بحر البلطيق، تمت دعوتي للمشاركة مع أربعين شاعراً ومترجماً من كافة أنحاء العالم في مهرجان عالمي لإحياء ذكرى الشاعر الروسي فلاديمير فيسوتكي (1938 ـ 1980) الشاعر الإسطورة والمغني والملحن والممثل لترجمة قصائده بلغات مختلفة ومن ضمنها اللغة الآشورية.
ومما جاء في الدعوة بأنه سيتم افتتاح المهرجان بعرض قصائده المترجمة في المتحف الذي يتصدر اسمه، حيث سيشارك العديد من المؤلفين والشعراء والمترجمين المعروفين والبارزين بهذا العمل ومن دول مختلفة، وعلى نحوٍ خاص بتلك اللغات التي لم تترجم أشعاره إليها، ومنها اللغة الآشورية. وستكون نتيجة المشروع إصدار كتاب شامل يتضمن القصائد المترجمة بأسماء المشاركين من الشعراء والمترجمين والمساهمين في هذا المشروع.
ومما ورد في الدعوة: " إنه يشرفنا أن تكون من بين المشاركين في هذا المهرجان الشعري العالمي بترجمة عدد من القصائد إلى اللغة الآشورية، وإن ذلك سيكون لنا من الأهمية بمكان في متحف ومعهد الشاعر فلاديمير لمشاركتك في المهرجان الذي سيقام بتاريخ 17 ـ 19 كانون الثاني 2015. كما وإن مشروع مهرجان الشعر العالمي هو الثاني من نوعه على غرار المهرجان الأول الذي تضمن بدوره 51 شاعراً من 15 دولة ترجموا 115 قصيدة شعرية ونصوص غنائية للشاعر فلاديمير متضمنة 38 لغة".
"ومما يدعني القول أن يغفر لي طموحي الأكاديمي بأن الترجمة ليست فقط لمتحفنا ومعهدنا، وليس لزوارنا فقط ، وكذلك ليس فقط لمعجبي ومحبي فلاديمير فيسوتسكي، وإنما لمكانته وإبداعاته بغية الحفاظ على اسمه لأجيال المستقبل، ليكونوا على معرفة بأهمية هذا الشاعر الفذ المبدع، كونه الشاعر الكبير والممثل والمغني والملحن المثير الإهتمام للذين يأتون من بعدنا. ولكي تتمكن من إداء الترجمة يمكنك الإعتماد على القصائد المرفقة في الموقع المشار اليه وبلغات عديدة ومنها الإنكليزية والسويدية والعربية ولغات أخرى لعلها تجديك نفعاً وتسهل عليك عملية الترجمة ". دكتورة مارلينا زيمنا ـ بولندا
***

وأخيراً بعد أن اكتملت أوليات مشروع جمع القصائد المترجمة والشروع بتبويبها وإخراجها، بوشر بطبعها وإصدارها في كتاب من الحجم الكبير بعنوان " فلاديمير فيسوتسكي في ترجمات حديثة " محتوياً بين دفتيه 59 لغة حديثة من القصائد ونصوص الأغاني البالغ عددها 117 قصيدة مترجمة من الروسية في 148 صفحة، مع تعريف بالإنكليزية عن كل لغة ، إضافة إلى السيرة الذاتية للشعراء والمترجمين الذين ساهموا في عملية الترجمة والبالغ عددهم 63 مترجماً من 26 دولة على ضوء صورهم المنشورة على وجه الغلاف ومن ضمن الكتاب أيضاً مع سيرهم الذاتية. ولمعرفة مصدر الحصول على الكتاب بالإمكان الكتابة إلى البريد الإلكتروني الآتي: [email protected]& علماً بأن الكتاب صدر بالترقيم الدولي المدون أدناه:
•&ISBN-10: 1505418585
•&ISBN-13: 978-1505418583

من مدعاة هذا المشروع التذكاري هو تقدير وتقييم هذه الشخصية المتميزة لإحياء ذكراه بمناسبة مرور 34 عاماً على رحيله، ليبلغ ما ترجم من قصائده في جزئين ما يقارب المائة لغة من لغات العالم بإهتمام معهد ومتحف فلاديمير فيسوتسكي في مدينة كوسالين البولندية. وبغية الإطلاع على ما ترجم للشاعر من لغات (من ضمنها العربية) في المهرجان الأول فقد تم نشرها في الرابط الآتي:
&http://koszalin.wysotsky.com
لكي يكون القارئ الكريم على معرفة عن سيرة حياة هذا الشاعر الفذ وأعماله التي ترنحت لها قلوب الملايين، نستعرض فيما يلي جوانب هامة من معايشاته العملية على أرض الإتحاد السوفييتي التي ولد فيها عام 1938 في موسكو من والدين روسيين هما سيمون (1916 ـ 1980) فلاديموروفيج فيسوتسكي، كان ضابطاً في الجيش، ونينا ماكسيموفنا كانت تعمل مترجمة من الألمانية. بعد ولادة فلاديمير بفترة قصيرة انفصل والداه عن بعضهما ليستقر به المقام مع والده في حضن زوجة أبيه الثانية يفجينيا ليخالاتوف الأرمنية الأصل ولمدة سنتين، وذلك في إحدى القواعد العسكرية الألمانية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن ثم تولت رعايته والدته نينا لحين اتمامه المدرسة الثانوية، ليلتحق فيما بعد بكلية الهندسة المدنية ما بين عام 1955 ـ 1956 ، وحين وجد بأن إهتماماته الفنية التي كان قد بدأها قبل ذلك عام 1953 في فرقة محلية للمعلمين تغلبت مشاعره على طبعه المهني الهندسي، فترك دراسته ليلتحق بقسم التمثيل المسرحي في مدرسة مسرح موسكو للفن الأكاديمي وتخرجه عام 1960. وعلى أثرها باشر عمله المسرحي في مسرح الكسندر بوشكين في موسكو، فذاع صيته آنذاك ليحدو الأمر بالمخرج يوري لوبيموف مؤسس مسرح تاغانكا للتمثيل الدرامي والكوميدي الذي تأسس في 23 نيسان 1964 أن يتصل بفلاديمير ويعرض عليه فكرة الإنضمام لمسرحه. وعلى ضور الإتفاق باشر عمله منذ عام 1964 كعضو في مسرح تاغانكا ، مؤدياً الأدوار الرئيسة في التمثيل الدرامي كمسرحية هاملت لشكسبير ودون جوان وحياة بريشت غاليلو وغيرها من المسرحيات إلى جانب أدواره الهامة في عدة أفلام ليحتل اسمه عناوين رئيسية في بعض الصحف. وفي هذا الصدد يتحدث الكاتب الروسي أندريه أندرييفيتش فوزنيسينسكي مما دونه في روايته التي استلهم مضمونها من معايشاته اليومية مع العديد من الادباء والشعراء والفنانين ومنهم فلاديمير، متحدثاً على لسانه حسب ترجمة الأستاذ عدنان المبارك المنشورة في موقع الساخر.
"جاء الى غرفتي يوري لوبيموف. فتيا بجسده الرياضي ، مرتديا سترة بالونية سوداء ببطانة حمراء. قدم مع لفينا المدير الأدبي للمسرح وإقترح عليّ عروضا في المسرح الجديد. وكان المسرح قد أعد الجزء الأول من عرض لأشعاري. وفي الجزء الثاني ألقيت الأشعار بنفسي. إجتمعنا خلال أمسيتين. وبهذه الصورة ولد العرض المسمى ( ضد العوالم ) . قدّم ثمان مرات على هذا المسرح. أما العروض الأخرى فكانت أكثر بمرتين في اضعف الأحوال. وحين أعددنا العرض التالي لم نفترق لحوالي نصف عام.&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& الحناجر الشابة الموهوبة كانت ترافق القيثارة بصراخها ضد العوالم - هراء. ومن بينهم كان هو الأكثر إهمالا ولامبالاة كما لو أن سحرا ما يقيه من الموت. فتى مربوع القامة يرتدي على الدوام سترة شبابية مرفوعة الياقة. كان ينحني الى الأمام كأنه عدّاء مسافات طويلة يتأهب للسباق.
كما وأضاف على قول الراوي ما يأتي: "في العام الثاني والأربعين من الحياة يصدر كتابك الأول ، وفي العام الثاني والأربعين من الحياة يصدر كتابك الثاني والثالث أيضا، سيكون عمرك 42 سنة حين يصنعون لك نصبا - كل شيء في هذه ال 42 سنة الأبدية."
من المُلفت للنظر، ونحن نتابع ما رواه أندريه، يبادرنا التساؤل والإستغراب. هل يكون ما أشار إليه هو نوع من المناجاة، ومن نسج الخيال؟ أم أن ما رواه يمثل جانباً من التكهن الحدسي؟ فإن كان ذلك فهو ما تنبأ به له بشكل مباشر، طالما يعتمد صيغة المخاطبة. أما إن كان تدوينه عكس ذلك، فلا محالة من أن الحقيقة امتثلت لرأيه بعد الرحيل الأبدي وهو في الثانية& والأربعين من العمر ، وقد تم تنفيذ كل ما أشار إليه زميله أندريه، بدلالة المواهب الشعرية والموسيقية الغنائية التي برزت وانتشرت ليفرض نفسه شاعراً وممثلاً وملحناً ومغنياً روسياً معارضاً للسلطة بأعماله الإبداعية المتمثلة بقدراته الفنية العالية ونتاجاته الشعرية المؤثرة من خلال ما تصدح به حنجرته بالحانه الراقصة المثيرة والمطعمة بروح الإستهجان والإستخفاف بمواقفه الجريئة من الأوضاع القاسية التي يعانيها المجتمع آنذاك من السلطة الحاكمة بهيمنة الحزب الشيوعي أيام نظام الإتحاد السوفيتي، حيث كان يزدري الوضع بإنتقاد لاذع ومباشر، مجسداً ذلك في قصائده وأغانيه الشعبية وعروضه المسرحية وأفلامه السينمائية، وعلى نحوٍ خاص ما كان ينشر عن غياب رقابة السلطة.
من هذا المنطلق، ونظراً لمواقفه الشديدة في الدفاع عن معاناة المواطن الروسي والمكانة التي اتخذها في قلوب المواطنين، أدت بهم لنعته بألقاب لم ينلها احد من قبله أو بعده، فقد لُـقّب بقلب الأمة، وكذلك بالنبي الذي لا كرامة له في وطنه، والنجم الذي اكتشف بعد وفاته.& لهذا تبين بعد رحيله عام 1980& مدى دور المعارضين والمنشقين في حياة المواطنين، فحدا الأمر بيوري اندرويوف الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي أثناء توليه منصبه 1982 ـ 1984 تخفيف الضربات الموجعة لهم ولمناصريهم، ممهداً الطريق لمن يأتي بعده.& وعلى أثر إنفتاح سياسة إعادة البناء أو البريسترويكا في عهد رئيس الدولة ميخائيل غورباتشوف اتخذت أعمال فلاديمير طريقها لحرية النشر تقديراً وتثميناً لما كان ينادي به توافقاً وتزامناً مع السياسة الجديدة للإتحاد السوفيتي، ليستقبل المواطنون أعماله بحرية تامة متخذة طريقها على الإنتشار في النوادي والمصانع والجامعات وعلى مستوى عالمي أيضاً، تيمناً بالجرأة التي كان قد تحلى وتميز بها أيام النضال السلبي. ومما ينبغي الإشارة إليه دور مسرح تاغانكا ليكون فلاديمير تلك الشعلة الوهاجة التي تبناها وإعتمدها مؤسس المسرح يوري لوبيموف كمدير ومخرج ذو باع طويل على مدى نصف قرن ليعاني هو الآخر ما عاناه فلاديمير كونه لمّ شمل كبار نجوم السينما السوفييتية بتقديم عروض مسرحيات سياسية ودينية لاقت الإعجاب الكبير رغم الرقابة المسلطة على رقاب أعضاء فرقته، لتشد من عزمها في بداية الثمانينيات على منع عروضه المسرحية، وبالتالي نفيه عام 1984 من الإتحاد السوفييتي وتجريده من الجنسية ليستقر به المقام في العديد من الدول التي استقبلت عروضه بإمتياز في أمريكا والدول الأوربية وعلى نحوٍ خاص مسرحية " الجريبة والعقاب" للكاتب الروسي الشهيرفيودور دوستوفيسكي ونيله جوائز عديدة عليها. كما وأنه ليس من الغريب فيما بعد أن تتراجع السلطة الحاكمة عن قرارها بدعوته للعودة والسماح له بممارسة أعماله من خلال ذات المسرح الذي هزت أرضيته بعض الظروف التي أدت إلى إنشطار الفرقة الجامعة عام 2010 وديمومته في أعماله إلى اليوم الذي وافته المنية عام 2011 في موسكو، ليكون مصيره بعد الوفاة كمصير عموده الفقري فلاديميرمن خلال ما كتب عنه.
لنعود ثانية& ونستذكر العمود الفقري لفرقة مسرح تاغانكا، وحسب المصادر التي ذكرت بأن أبرز وأشهر ما كتبه فلاديمير بإسلوب ومنحى غنائي مؤثر، شهد لها الشعراء والنقاد، ومنها التي كانت عن الحياة في السجن السوفياتي (فقط الحكم النهائي هو الأسوأ) والنفاق السوفياتي الرسمي (اني أحزن على وضع هذا الشرف إلى هزيمة) ، ومن جملة أغانيه الشهيرة "على شفير الهاوية" ، "أنقذوا أرواحنا" ، "صيد الذئاب"، "أغنية عن صديق" إلى جانب أدواره الجريئة في مسرحياته المليئة بالسخرية والمشاهد المضحكة مثل: الحمام ، البقة وغيرها..
ولكي يخفف من انفعالاته النفسية الحادة المشوبة بالإدمان على الكحول وغيرها، أقدم على الزواج عام 1959 من إيزا جوكوفا كأول شريكة حياته التي انفصل عنها فيما بعد، ليحقق حلم زواجه الثاني عام 1961 من لودميلا ابراموفا ليتم الإنفصال بينهما أيضاً. وفي تموز 1967 يلتقي الممثلة الفرنسية الروسية الأصل مارينا فلادي التي كانت متزوجة سابقاً. ومن خلال فلم مشترك تنشأ بينهما علاقة حب وإعجاب ليحققا حلم الزواج عام 1970 الذي إستمر على مدى عشر سنوات. ولكي تخفف مارينا من عبء زوجها وهمومه انضمت الى الحزب الشيوعي الفرنسي لتجد حلاً على سفر فلادمير بصحبتها إلى فرنسا ليعيشا معاً على قرب وتحت سقف واحد، ولتبعد ـ نوعا ما ـ ملاحقات السلطة له من مواقفه النقدية والتهكمية الواضحة التي دوّى صداها في المجتمع، بحيث أدت به تلك الفترة الصاخبة أن يعيش حالة اليأس والقنوط محفزة أياه أن يشد من عزمه بهيجان جرأته، منتفضاً بكتابة احتجاج إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ممتعضاً من موقف الحكومة على منع أغانية وأشعاره التي لم تتخذ الشكل الرسمي على نشرها وطبعها، دون أية استجابة لمطلبه.
في عام 1969 كانت قد ساءت صحته ليغمى عليه ويعيش في غيبوبة لتقوم زوجته مارينا العناية به وإعادة صحته لحالتها الطبيعية، مواصلاً عمله بشكل دائم، رغم كل المضايقات التي عاناها في حياته وآلمته بحيث لم يتوانى في التجوال داخل وطنه، ومن خلال ذلك تتسنى له الفرصة بوجوده في استونيا ولأول مرة على استضافته في مقابلة تلفزيونية خاصة بعنوان " شاب من تاغانكا " في حدود الساعة الحادية عشرة من ليلة 15 تموز 1972 متحدثاً عن أعماله. وكذلك شاءت الظروف للمرة الثانية أن تتم مقابلته علناً في مقاطعة جيجنيا في القفقاس.
في منتصف السبعينيات من القرن الماضي أدمن فلادمير بشكل منقطع النظير على الكحول واستعمال المورفين والمخدرات، جاعلاً من إدمانه طريقاً لنسج مفردات قصائده الشعرية الحادة بألحان غنائية مؤثرة على مشاعر جماهير المجتمع المتضجر والمُنهك من سياسة السلطة الحاكمة، وليتم حفظها عن ظهر قلب من قبل الملايين. ومن الجدير ذكره بأن من كان يظهر موقفه علناً عادة ما يعرض نفسه للقصاص، وأكبر دليل على ذلك ما صرح به الكاتب الروسي الذائع الصيت ميخائيل شيشكين الذي عانى هو الآخر ذات المعاناة ـ في روسيا اليوم ـ ليستقر به المقام عام 1995 في سويسرا حين قال: بأن والدته الأوكرانية التي كانت مديرة مدرسة ثانوية في موسكو قد أعفيت من منصبها بعد أن أقامت أمسية أدبية عن الشاعر فيسوتسكي.
ومما ذكر عنه في " أنباء موسكو" عن الفيلم الذي يروي قصة حياته بعنوان " فيسوتسكي, شكراً لأنك حي" مشاهد له في آسيا الوسطى، وهو ملاحق من قبل قياديين من الحزب الشيوعي والاستخبارات، متطرقا إلى لحظات من الخلافات الداخلية للقيادة، تخبر حياة فنان مر بالموت السريري و"القيامة" ووتيرة حياة يومية محمومة وحفلات موسيقية وصراع بين محبوبين."علمأ بأنه لم يكن من الذين يعمدون الشهرة المقصودة رغم مواهبه المتعددة، ولهذا لم يقدم على جمع أشعاره وطبعها في ديوان مستقل بالرغم من تجاوزها المئات من القصائد إلى اليوم الذي وافته المنية بالسكتة القلبية ليتم جمعها ونشرها بعنوان "أعصاب". إضافة لأغانيه التي لا تحصى متخذة طريقها علانية في الحقول الإعلامية الروسية والعالمية. وقد تم وصفه أيضاً بأنه " يقترب بأعماله من الطبقات الشعبية، فهو الأقـرب إلى العمـال وسـائقي الشاحنات ومدمني الفـودكا والجنود والطـلبة والمثقفين والمعارضين المطالبين بالتغيير ويوحد الروس على اختلافهم بحبهم لفنه".
إن هذه الإنجازات الإيجابية دلالة قاطعة على تفاوت وإنقلاب الموازين من عصر لآخر ليحظ المصلح منهم من ذوي الفكر النير بأهمية وجودهم بعد رحيلهم، لتبق روحهم ترفرف والذكرى التي يمجدون بها بعد رحيلهم الأبدي. هذا ما جرى للعديد من المفكرين والفلاسفة والمبدعين في أغلب دول الإستبداد والقمط الفكري بعد التحرر، فبدلاً من أن يتم فهم وتحليل دعواهم يعاقبون بالرفض والإبعاد والضياع المتعمد، ومثلما قيل: " لا كرامة لنبي في زمانه وفي موطنه" و" بئس أمة ندمت، ولات ساعة مندم".
&ولكي يكون فلاديمير بعيداً مما كان يعانيه، وقبل يوم من وفاته بالسكتة القلبية في الرابع والعشرين من شهر تموز 1980 كان قد كتب آخر قصيدة وكأنما كان على معرفة من رحيله الآبدي على وفق معانيها التي اقتطف منها أبياتاً متناثرة حيث يقول فيها:
شكراً لك يا صديقي، انها الزيارة الأخيرة إلى الملجأ.
أنتظر واحداً ما بين القبور،
اشعر كجري الدقائق.
هل تتذكر كيف كنت أحب الغناء، وكيف يتصدع الصدر.
الآن لا صوت ولا قوة،
لفتح الشفتين.
وداعاً فندق تاغانكا والأفلام، وداعاً العالم الأخضر.
في القبر خوف وظلام،
الماء يتدفق من الثقوب.
شكراً لك يا صديقي، انها الزيارة الأخيرة إلى الملجأ،
نحن جميعاً سجناء القبور هنا.
عندما تموت، فإنك سوف تفهم،
ما هو الشئ ـ الحياة....
وداعاً! أنا نفسي عشت تجربة
في الشريط "المنارة".
والأغاني التي كنت قد طورتها،
تقاوم عبر العصور!
23 تموز 1980
وفي اليوم المصادف 28 تموز كانت قد مضت على وفاته أربعة أيام، فتم نقل جثمانه ليوارى الثرى في مرتع ولادته ونشأته من العاصمة موسكو في مقبرة عظماء الوطن الأم إلى جانب من تم تمجيدهم من الرواد، وبين اولئك الذين ضايقوا عليه حياة الحرية وديمقراطية الرأي ليقترن اسمه بأحد عظماء الفكر التقدمي والتحرري ومقارعة الظلم والطغيان، بحضور ما يقارب المليون شخصاً من المشيعين على وفق تقديرات ما كتب عنه في الوسائل الإعلامية، وذلك في الفترة التي تزامنت مع دورة الألعاب الأولمبية في موسكو من نفس العام . فكان لهذه المناسبة وقعها على الحكومة كونها بمثابة تظاهرة احتجاجية دفاعاً عن آراء ومواقف فلاديمير التي حدت فيما بعد بالرئيس غورباتشوف أن يعلن الحرية لأعماله، وعلى آثر ذلك صدرت العديد من الكتب عن حياته ونشرت القصائد والمقالات لرثائه علناً، لتتولى أرملته مارينا على إصدار كتاب خاص عنه. وفي عام 1985 أقيم له نصباً تذكارياً على قبره من تصميم وعمل النحات الروسي الكسندر روكافيش نيكوف، ازاحت الستارة عنه زوجة أبيه يفكينيا ليخالاتوف بحضور العديد من الشخصيات والمعجبين بأعمال فلاديمير. وكما يبدو في صورة التمثال وكأنه مقيد بالسلاسل، لكنه تعني أجنحة شبيهة بالملائكة حامية له. كما وتم فيما بعد تدشين تمثال آخر في مدينة ماغادان بأقصى شرق روسيا من قبل النحات يوري رودينكو بعنوان " سأحكي لك عن ماغادان " يمثل سطراً من قصيدة فلاديمير أثناء زيارته لتلك المدينة التي كانت معقلاً للمعتقلات الستالينية في ثلاثينيات القرن الماضي. وقد شمخا هذان المعلمان على أرض روسيا ليصبحا الدرب الممهد على استقطاب الزوارعلى نحوٍ دائم، إلى جانب ما قامت به مجموعة من الفنانين الكبار في دار الموسيقى بموسكو على افتتاح غرفة خاصة في مكتب فيسوتسكي في متحفه، جُمِعَت فيه كل ما تركه من حاجيات متمثلة بالصور والكتب وأزياء أدواره المسرحية والسينمائية وقيتاره ليتسنى للزوار الإطلاع عليها ومشاهدتها عن كثب. كما أنه عادة ما تقام سنوياً المعارض والأمسيات الثقافية والفنية إحياءً لذكرى رحيل الممثل والمغني والشاعر الروسي الشهير فلاديمير فيسوتسكي في روسيا والعديد من الدول جاعلين منه رمزاً للحياة الحرة الكريمة على مقارعة الفساد والظلم والطغيان ودكتاتورية السلطات بدلالة يقظة الحكومة الروسية عام 1987 وإقدامها على منحه جائزة الدولة بعد وفاته، ومن ثم إحياء ذكراه التاسعة عشر بدلالة الطابع التذكاري الصادر عام 1999 ليجسد وجوده الدائم في ذاكرة التاريخ.
كاتب آشوري من العراق
[email protected]
&