علي كامل من لندن: إثنا عشر ممثلاً، خمسة سكاكين مغروزة على خشبة المسرح، سلّم مصنوع من الحبال يتدلى من شرفة افتراضية لجولييت، سرير أبيض سيستخدم غرفة نوم جوليت تارة، وتارة أخرى ستوظف قضبانه لتكون بمثابة شرفة جوليت مرة وقضبان سجن مرة أخرى. هذه هي معّدات عرض المخرج نل بارليت لمسرحية شكسبير "روميو وجوليت" من على خشبة مسرح ليريك في همرسميث.

مسرحية "روميو وجوليت" هي على الأرجح أعذب قصة حب على مرّ العصور. فقد أصبح العاشقان هما أكثر العشاق شهرة في العالم بسبب حبهما الساحر الذي يتوّج بنهاية مأساوية.
إن مأساة روميو وجوليت تكمن ليس في سوء طالعهما، ولا لأسباب لها شأن بتحكم الأقدار، بل بالاستبداد الذي طبع عائلتيهما في المقام الأول، ومن ثم توقهما الشديد إلى الحب والحرية وإثبات الذات وبأمور تجري خارج إرادتيهما.
كتب شكسبير هذه المسرحية عام ١٥٩٥ قبيل سلسلة مآسيه وكوميدياته الشهيرة مقتبساً حكايتها من القصيدة الطويلة "روميو وجوليت التي كتبها آرثر بروك"، بعد أن حوّرها وأضاف اليها شخصيات أخرى من مخيلته. فمركوثيو، الشخصية المحورية في نص شكسبير مثلاً، لم يكن له وجود في نص آرثر بروك، فضلاً عن بناء الحبكة وحوارها الشعري. الشيء الآخر هو إن جّل عاشقات شكسبير يلقين حتفهن في النهاية وهّن في مقتبل العمر. فدزدمونة وكورديليا تموتان قتلاً، أما أوفيليا وجوليت فهن يخترن الانتحار خلاصاً في النهاية. إنهن جميعاً عاشقات ومعشوقات أو مؤهلات للحب. أما جوليت فقد كانت الحب نفسه. فالعاطفة هي بمثابة كينونتها وبدونها ليس بمقدورها البقاء. إنها الروح وهي تعتمل داخل روحها، والنبض في أعماق فؤادها. فالعاطفة بالنسبة لها هي دم الحياة الذي يجري في عروقها. في حبها الحميم تحتفظ جوليت بيقظة عنيفة، وقلبها الرقيق العذب مشحون بحماسة تقود هي الأخرى إلى العاطفة. هنا تنغلق الدائرة مبتدئة بالعاطفة ومنتهية بها. هذا الفيض من العاطفة هو الذي سيقودها إلى الغضب، الغضب الذي سيّتوج بالبطولة.
وجوليت تبدو لنا في بعض الأحيان أكثر من عاشقة. لقد خلق شكسبير من فتاته إبنة الأربعة عشر عاماً شاعرة عظيمة وفتاة شجاعة لم تخشى شيئاً حين أقدمت على زواجها السري من روميو. فلم تكن خائفة حين عوقب روميو بالنفي، بل على العكس، فقد واجهت الأحداث والمخاطر لوحدها، ولم تستطع حالتها المزرية أن تحّطم روحها خلال الفترة الوجيزة ما بين زواجها وموتها. أما لجوئها إلى اللعب والمخادعة على من يحيطها لتحقيق زيجتها السرية تلك، فقد كان سببه أنها كانت مرغمة على فعل ذلك ولكن بذكاء خارق، وقد كان هو السلاح الوحيد الذي استطاعت أن تهزم به والديها في الآخر. إيطاليا بالنسبة لشكسبير هي بمثابة حيز فانتازي خصب للعشق. فهي المكان الذي تجري في إطاره تسع مسرحيات من مسرحياته، وهكذا كانت فيرونا حيزاً لأحداث روميو وجوليت.
لم يعتمد المخرج نل بارتليت على الطبعات السائدة لنص روميو وجوليت، إنما اعتمد على نسختين احداهما (Qood Quarter) وهي النسخة غير المكتملة من مخطوطة شكسبير الأصلية. أما الثانية فهي (Bad Quarter) التي اعتمدت على ذاكرة اثنين من الممثلين كانا قد قدّماها مباشرة بعد كتابة شكسبير لها.& ما فعله بارتليت المخرج هو أنه مازج بين النسختين بعد أن حذف كل ما بدوره أن يعيق العمل الجسدي للممثل على خشبة المسرح محاولة منه تأمّل الاستجابات الراهنة والمعاصرة لممثليه لاقتفاء واكتشاف ما تبقّى لاستكمال النص الأصلي.
تقنياً اعتمد المخرج على عنصرين رئيسين وهما طاقة الممثل الجسدية والصوتية أولاً والإضاءة ثانياً. فبارتليت يرى مثلاً أن المسرحية تعالج موضوع (الضوء) أكثر منه لموضوع (الحب).! وسآتي هنا على بعض الشواهد التي تؤكد هذه الرؤية أو التأويل.
في كتابها (استعارات شكسبير) تقول الناقدة البريطانية كارولاين سبارجر (ص٣١٠) "إن الاستعارة المهيمنة في مسرحية (روميو وجوليت) هي الضوء وأي شكل أو مظهر له".
شكسبير في هذه المسرحية يستخدم الصور المضيئة والمعتمة طوال الوقت لتوصيف العنصر الرومانسي وتماهيه بين الإثنين، روميو وجوليت. وهاتان الاستعارتان المتضادتان في الشكل والمحتوى يتم استخدامهما بشكل متواصل طوال المسرحية، وكل استخدام له دلالة مختلفة نوعاً ما بالطبع. صورة الضوء والعتمة تلعب هنا دوراً مهماً في خلق المزاج الذي يرمز إلى الحب والتلميحات التي تنذر بالمصير القادم لهذا الحب.
الضوء كمجاز يستخدمه شكسبير هنا لأول مرة في مشهد حفلة الرقص التي تقام في قصر كابوليت (الفصل الأول المشهد الخامس) والذي يمثل اللحظة التي يقع روميو وجوليت أحدهما في غرام الآخر في باحة الرقص.
حين تقع عيون روميو على جوليت يشّبهها على الفور بالضوء المتوهج للمشاعل التي تنير ذلك القصر، أو بالضوء الذي سيّحرره من سوداويته المستديمة. أو قوله: "ارتفعي أيتها الشمس الصافية وبددي حسد القمر وغيرته". وفي مشهد الشرفة الشهير يشبّهها بضياء الشمس: "إنه الشرق وجوليت هي الشمس" أو "إن إشراقة خدها يُخجل تلك النجوم، مثلما يُخجل النهار ضوء المصابيح". وفي مكان آخر:يقول روميو: "أوه، إنها تُعلّم المصابيح أن تتقد أكثر. إنها تبدو وهي معلقة على خد المساء، مثل جوهرة أنيقة معلقة في أذن أثيوبي". أو يصفها في مكان آخر بأنها "مصدر للضوء، مثل نجمة في العتمة". في المقابل جوليت تشّبه حبها الجديد بصورة البرق، للتشديد على "السرعة" التي تعدو فيها رومانسيتهما، تماماً مثل سرعة ومضة
البرق. وصورة البرق توحي أيضاً بالضوء اللامع الخاطف في عتمة السماء ليلاً، وهو الآخر استعارة لحبهما الذي هو بمثابة ومضة خاطفة من الضوء في عالم مظلم ومختلف، حيث كل ما يمكن لجوليت أن تفعله أمر متحّكم به من قبل المحيطين بها.
حين لا تصل مربيتها بالسرعة الكافية بأخبار لروميو، نسمع جوليت تندب قائلة بأن :"بشائر الحب ينبغي أن تجري بسرعة أسرع بعشرات المرات من أشعة الشمس، دافعة الظلال إلى الخلف فوق التلال الخفيضة".
هنا يتم مقارنة بشائر الحب التي ستجلب معها أخباراً مطمئنة عن حبيبها بأشعة الشمس السحرية التي تدفع الظلال غير المرغوب بها إلى الوراء. والضوء والعتمة يتبادلان المواقع بين الحين والآخر طوال عرض المسرحية. تجاورهما المتوتر هو رديف للتطرف العاطفي الذي يشعر به هذان العاشقان أحدهما نحو الآخر. فروميو وجوليت يعيشان حالة عاطفية متطرفة، وهذا التطرف نجده في مغزى الضوء والعتمة. فإما الضوء الذي يغشي العين لحد العمى، أو العتمة الخالصة. هذا الاستخدام المتواصل للضوء والعتمة يوظف هنا أيضاً كتلميح للكيفية التي يمكن للحكاية أن تجري أحداثها دون أن يتحكم بها أو بنتائجها أحد.
ومع ذلك، حين تتأمل نوعية صور الضوء بأنه ضوء أعمى أو مسبب للعمى، أو ضوء متفجر يغشي العيون، تحس بتلميح أن العتمة والحزن اللذان سيأتيان لاحقاً ينبغي أن يتوازيا بسعادة كهذه، تماما مثلما تتعارض الاشراقة والعتمة لجعل الضوء أكثر توهجاً والعتمة أكثر سواداً. وهكذا فإن صورة العتمة والضوء لروميو وجوليت تجعل الأوقات السعيدة تبدو جميلة إلى أبعد الحدود ولحظات الحزن أكثر مأساوية.
مع ذلك ورغم كل الإشارات الإيجابية المشار اليها لصور الضوء، إلا إنه يتخذ في نهاية المطاف دوراً سلبياً ما يجعل العاشقين مرغمين على الافتراق عن بعضهما بسبب بزوغ ضوء الفجر:
روميو: إنها القبّرة، بشائر الضحى. لا وجود للعندليب. أنظري يا حبيبتي أي شرائط ضوء حاسدة. اربطي تلك السحب المتفرقة هناك في الشرق البعيد، شموع المساء أُطفئت والنهار المرح يقف على أصابع قدميه في قمم الجبال الضبابية. ينبغي أن أغادر أو أبقى لأموت".
التكرار المتواصل لصورة الضوء والتركيز عليه تنذرنا أيضاً بحلول التضاد، الذي هو العتمة، التي هي بمثابة مجاز للمأساة التي ستتبع لاحقاً، لأننا نعلم جيداً أن سعادة كهذه لا يمكن آن تتحقق من دون ثمن.
من جانب آخر، جوليت لا تخشى العتمة، فهي تعلن أن المساء يمكن أن يأخذ روميو ويشطره إلى نجوم صغيرة ليجعل وجه السماء أكثر جمالاً، حينها سيكون العالم كله في حالة حب مع المساء، وسوف لن يؤله الشمس. روميو يتحول هنا إلى سرمد متلألىء ليصبح الصورة الحقيقية للضوء، بل أكثر ألقاً من الشمس ذاتها.
يقول المخرج: "أنا متحمس جداً بحقيقة أن هذه المسرحية على وجه الخصوص تجتذب دائماً الكثير من الناس سواء من الشبيبة الذين لم يروا مسرحية شكسبير هذه أبداً من قبل، وكذلك الناس الذين يعرفون هذه المسرحية ويحبونها كواحدة من أفضل القصص المكتوبة حول كيف يمكن للعالم أن يتآمر لتقويض كل ما هو جميل ومشرق".
لقد سعى المخرج نل بارتليت وممثلوه إلى خلق ايقاع سريع وعنيف جداً للأحداث بنفس إيقاع العنف الذي تجري فيه مشاعر العاشقين تلك التي ستنتج وبذات السرعة القوة المهلكة لذلك العشق. ففضاء المسرحية، وفق هذه الرؤية، ينبغي أن يكون قاسياً وعنيفاً ومتحرر جنسياً لغرض أن يتقاطع الشعر الجميل المفعم بالدم الحار بومضات السكاكين وصوت موسيقى الشارع الإيطالي التي كانت تعزف بشكل حي على خشبة المسرح بمعية الممثلين. وبدلاً من التشديد على العاطفة التي هي الثيمة الأكثر وضوحاً في النص نجد المخرج يؤكد هنا على التسييس الأبوي.
تدفق أماكن الأحداث على خشبة مسرح عارٍ هو سمة أخرى للعرض: الشارع عند الظهيرة، أشجار البستان تحت ضوء القمر، قاعة الرقص، المقبرة. كل هذه الأماكن لم يتم تجسيدها بديكورات وإكسسوارات تقليدية، إنما تم تجسيدها في الفراغ عبر مخيلة الممثلين أنفسهم وكذلك عبر الضوء. والمخرج بارليت لديه وجهة نظر بهذا الشأن تتلخص في أن تغيير الديكور والملابس من حين لآخر عبر فصول المسرحية يفسد سيولة ورشاقة وتدفق الأحداث فلا بأس بمسرح بدون ديكورات أو إكسسوارات..
الممثل ستيوارت بانس (روميو) وإميلي ووف (جوليت) كلاهما بدا عنيفاً وشكساً ربما بسبب أن حكايتهما تدور حول عاشقين متفائلين ميالين للجدل والكذب ويسعيان لإحراز ما يريدانه. ستيوارت بانس وإميلي ووف مارسا سلوك العشاق كل على حدة وبشكل منعزل. ستيوارت بانس (روميو) بدا ضخماً وقوياً رغم أن
وجهه كان يشي بالرقة والوهن. أما إميلي ووف (جوليت) فقد كانت صغيرة وفاتنة لكنها ستتحول فيما بعد إلى نمرة مسعورة!.
إنهما عاشقان مثاليان، إلا إن الجنس الخالص والملامح الجميلة والمقنعة ليسا كافيين لخلق حالة حب. لذا فقد أظهر المخرج هذا النص مفعماً بالكذب والخداع والمناورات، حيث النسوة يتنازعن وما يتفق ورغباتهن، فجميعهن يسعين هنا للزواج كي يصبحن أمهات أو مربيات... الخ. أما الرجال فإنهم يتقاتلون من أجل احراز كل شيء، لا سيما إخضاع النساء لإرادتهم. وهذه حقيقة سواء كان هؤلاء الرجال مراهقين أو آباء أو كهنة!.

الشرارة التي يطلقها العرض هي حين يُظهر إمرأة& واحدة وسط كل ذلك المجتمع النسوي آنذاك تقف لتتحدى كل تلك الأعراف برفضها أن تكبر لتصبح صورة من أمها، أو لتتزوج وفق قواعد يرسمها لها ذويها.
الممثلة إميلي ووف بعنفها وعواطفها المشبوبة وهي تجسد شخصية جوليت تذكرّنا بالممثلة أوليفيا هاسي التي لعبت نفس الدور في فيلم روميو وجوليت للمخرج الإيطالي زيفيرللي عام ١٩٦٨، إلا أن ووف أظهرت طاقة أداء تفوق طاقة هاوسي بعشرات المرات.
تمرّد جوليت وغضبها ضد مجمل الأعراف وهي بهذه السن وبهذا الشِعر الشكسبيري وهو ينساب من حنجرتها نجده في توسلها للمساء في (مشهد الشرفة) في أن يشق روميو طريقه صوب النجوم الصغيرة كي يزّين وجه السماء، تجعل من روميو يبدو لنا شيئاً أثيرياً: "إنه سيجعل وجه السماء فاتناً.. وسيصبح العالم كله هذا المساء في حالة عشق.".
استخدم المخرج قضبان سرير جوليت بمثابة مجاز لسور الشرفة. وستتحول بعد نفي روميو إلى قضبان سجن. هذه النقلات وتلك التحولات السريعة في عواطف جوليت جسدتها الممثلة ووف بشكل يمكن الإحساس به لكن لا يمكن وصفه. أما الشخصيات الرجالية فبتحدياتهم المرعبة ومبارزاتهم العنيفة بدوا وكأنهم أشبه بخيول حُررت تواً من زريبة إيطالية.
الممثلة روبرتا تايلور التي قامت بأداء دور المربية، وهو دور جوهري في المسرحية، استطاعت أن ترفد العرض بدفء وحنو عاطفي بدندنتها الشجية الشبيهة بدندنات دورز داي وهي تبعث الطمأنينة في روح إبنتها الثانية جوليت. أما أكثر الشعر انسياباً ورقة فقد جاءنا عبر حنجرة الممثل ديفيد فوكسي الذي قام بأداء الكاهن فراير، العجوز الحنون الشبيه بخيمة دافئة.
هذان النموذجان البديلان للأم والأب الحقيقين قد تجسدا حقاً في هاتين الشخصيتين، شخصية الكاهن وشخصية المربية، حيث ظهرا وهما يفيضان بالحب والحنو والشجاعة، على الضد من والدي جوليت كابوليت وزوجته، اللذان ظهرا مستبدين وعنيفين يفتقران إلى أبسط صفات الأمومة والأبوّة. أما روميو (الممثل ستيوارت بانس) فقد ظهر أشبه بدمية أو ألعوبة.. شاب ﭬيروني طائش ونشيط على الرغم من جاذبيته وفتنته وشجاعته.
هذه المعالجة الإخراجية المبتكرة أضفت نكهة معاصرة للنص الإليزابيثي من خلال التشديد على فكرة الصراع من أجل إثبات الهوية والتوق الشديد إلى الحب والحرية من خلال لعبة الضوء والعتمة.&&&&&&&&
&