&تنفتح الكتابة الشعرية على مطلق العالم، وهي في هذا الانفتاح تحفز الذات الشاعرة على أن ترى أبعد من المتاح والممكن، أن تنقب دائما عن مستحيلاتها، أن تعطي أن ابتكار العالم هو عمل تجريبي حر ينطوي على مغامرات وكشوف ومقامرات أيضا، وأن تعطي أن الوصول هو أيقونة أبدية راكضة في مخيلة الشاعر/ أو الشاعرة، بيد أنه وصول محال أو غير ممكن لأن هذا الحنين إليه يظل يهاجس الذات، ويظل يوسوس لها كي تسارع خطاها الجمالية من أجل السير على صراط الكلمات الوعر المشحون معا.
&إن الاقتراب من الكتابة الشعرية لدى الشاعرة ماجدة داغر هو اقتراب يسعى إلى ملاحظة كيفية تجلي المكونات الدلالية في هذه الكتابة، منطلقين من سؤال جوهري:-
ما هي الدلالات المهيمنة على نصوص ديوانها:" جوازًا تقديره هو" ؟ ( دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى 2015) وكيف يتم تكرارها في النصوص وشحنها بدلالات وطاقات متجددة عبر سياقات متمايزة تتوارد من نص لآخر؟
&ولعلنا في هذا السؤال نكون قد وضعنا لبنة أولية صوب السبيل إلى كشف مكامن نصوص ماجدة داغر الشعرية.
&إن البحث عن المكون الدلالي والقصد به هنا : الوقوف على مجموعة الدوال التي تتكرر بدأب في النصوص، ومدى التغيرات الدلالية التي تطرأ عليها أو التي تشكلها عبر وجودها في سياقات متعددة، والبحث عن جذور هذه المكونات الدلالية ومدى تكرارها في النصوص.
&إن القصد هنا من هذا الطرح يتمثل في الاستخلاص الأولي لهذه المكونات من الفضاء العام للنصوص، وقراءتها على حدة، وبيان دورها الفاعل أو غير الفاعل في إضفاء قدر من التصوير وقدر من المعنى على كل نص.
&إنها بداية مراوغة لأنه سيكون في حسباننا هنا ملاحظة كم العلاقات الدلالية بين هذه الدوال من جهة، وعلاقتها بالنصوص من جهة أخرى وعلاقتها ربما بدوال أخرى غير مكررة لكن لها تأثيرها الجذاب والفعال والمؤثر في بنية النص ومحتواه الجمالي.

فضاء جمالي:
تنبجس النصوص الشعرية في فضاء شعري متكثر لدى ماجدة داغر، هذا الفضاء يتشكل من مجموعة من المكونات التي تركز عليها الشاعرة، وسوف نسعى في هذا القراءة إلى إعادة إنتاجها على مستوى التلقي وعلى مستوى الرصد والتأويل، وتتمثل هذه المكونات في استثمار المعرفة الجمالية لدى الشاعرة وهي معرفة ترتبط بالمورث الإبداعي سواء على المستوى الشعري أو الأسطوري، وتضمين ذلك في نصوصها، كما تتمثل في إيلاء الذات الشاعرة القدر الأكبر من تأمل العالم بغض الطرف عن ماهيته صغيرا أم كبيرا، والاتشاح بسمات صوفية وسوريالية أحيانا تمزج بين الواقعي والحالم، بين الحادث والمؤجل، بين المتذكر والمتخيل، بيد أن الأفق الناظم لهذا كله يتجلى في استثمار آليات الكثافة والتجريد والإيجاز المكتنز دلاليا.
&إن اقترابنا من ديوان:" جوازا تقديره هو" يصبو إلى الكشف عن المكونات وعن الفضاء الجمالي وتحديد ذلك كله، عبر هذه القراءة ووعيها النقدي المتسائل.

الصيغة العبارية:
إن ما تنهض به الشاعرة ماجدة داغر في صياغة عبارتها الشعرية يقوم على ثلاثة أسس:-
-&الأول: التركيبة المدهشة الصادمة أحيانا المكثفة للجملة الشعرية، بحيث تجعل القارىء لا يتوقع تلاقي هذه الجمل أو سياقاتها بشكل مباشر، إن هذه التركيبة تتأدى من خلال ما يمكن تسميته ب" الفصل والوصل" الدلالي فهي تصل الجملة بسابقتها وبما بعدها، فيما تفصلها لتصبح كينونة تصويرية خاصة أو أيقونة شعرية من جملة الأيقونات التي يتشكل منها النص .
-&الثاني: التجريد، وتنويع الأفق التجريدين فالجملة قصيرة وأحيانا تصل لكلمتين فحسب، هذا التجريد يضفي على الجملة قدرا من إشعاع التلقي وتركيزه خاصة إذا كانت تتسم بالعمق والكثافة، وتخييل الأشياء، فالتجريد لا يتأدى بشكل مؤثر ما لم تكن له طاقته في النص وشحنته الكامنة بمختلف الدوال.
-&الثالث: المخاتلة النصية والمراوغة التخييلية، فالشاعرة حين تركب جملتها الشعرية لا تؤديها بشكل سياقي معهود، وكأن الجملة ستضيف وتنوّر، لكنها تؤديها بشكل مختلف يقطع مع النص، يفاجئه، يصل إلى دهشة بعيدة، إلى فضاء شعري كامن في النص وآخر غير كامن به.
هذه الأسس نعايشها جليا في عبارات كثيرة لدى الشاعرة، ويمكن تمثيلا أن نزجي قدرا منها لنقف على كيفية تشكيل الجملة الشعرية لدى ماجدة داغر: -

-&لا إياب
والذهابُ أيقونةُ العودة
لا حدوث خلف أبواب المدينة
خلف التوحد والجدران
النوافذ صارت قربانا
الأسودُ أجّل التحليق لأجل سلام الريح. ص 12

-&وهي ترحل
لا تعرّ كتفيها من اللحظة المنتشية
وحدها تعبىء الوراء في حقيبتها
وحدها تتقنُ استحضار المحيط
لترميها، فصلا فصلا، أغراض الحقيبة
ومواسم الشهوة
وحده أحمر شفتيها
يرمم وجه البحر . ص 19

-&لا تُشرْ إلى ظلك المسقوف بعبارة ماطرة
يتبلل فيك الحنين
أهوي من المنام . ص 122

-&قالوا :& إن الظل وجعٌ شفّ
وقال آخرون: إنه فراشة بالأسود والأبيض
ومنهم من قال:
إنه وجهي الذي لا أراه.& ص48

وتمتثل الفيوض الدلالية التي تطرحها الشاعرة ماجدة داغر لجملة من العلاقات الجلية، وهي حين تنتج نصوصها إنما تنتجها بوعي بحركة هذه العلاقات، وآفاقها القريبة والبعيدة.
&في النص المتواتر المعنون ب:" مثنى في صحراء المفرد" ( الديوان : ص.ص. 87- 104) نحن بإزاء نص شعري متنوع، يتشكل من أربعة مشاهد معنونة بعنوان واحد يستثمر دأب الشاعرة في استخدام المفاهيم النحوية لصياغة سياقات تعبيرية جديدة، المثنى في مقابل المفرد، وهنا يقلنا المثنى لاحتمالات تأويلية متعددة.
المثنى هنا في النص الشعري يكتنز داخله الحالة الفردية، وهو مكون من كلمة واحدة، والدلالة التي تزجيها الشاعرة في نصها تومىء إلى حالة دمج بين الأنا والآخر، لكن هذا الدمج مهدد دائما بعودته إلى فردانيته، مهدد بانفصال ما، بعد اتصال .
يتكرر عنوان النص أربع مرات، في كل مرة تحدث دفقة شعرية جديدة تصور العلاقة بين الأنا والآخر، بين ذات متألمة متأملة معا، وبين ذات مثالية أو يفترض فيها هذه المثالية القادمة من فيوض الوجدان.
&وتلامس نصوص الديوان دائما حافة التخيل وحواف السؤال. فالشاعرة في جل نصوصها شاعرة تعمل بدأب على شغل النصوص بعناقيد متتالية من الصور المنسوجة بدقة رائية، خاصة في:" لا حدوث خلف أبواب المدينة" و" مرثية النزق" و" بارابيسيكولوجيا" و" قبل أن" في ديوان:" جوازا تقديره هو" نحن حيال شاعرة تقبض على كثافة الكلمات وتعيد أسطرتها تصويريا في نسيج شعري يحفز على التأمل والاستقصاء الدال المختلف.
&