أكد الناقد والروائي المغربي د.محمد برادة في كلمته عن الروائيين والنقاد العرب المشاركين في الملتقى الدولي السادس للرواية العربية الذي ينظمه المجلس الأعلى للثقافة وافتتح أمس ويستمر حتى 18 مارس 2015؛ بمشاركة مائتي وخمسين ناقدًا وروائيًا من مصر والعالم، وتحت عنوان "تحولات وجماليات الشكل الروائي"، أن الرواية العربية لا تستطيع أن تقفز على الحاضر أو أن تتناساه، بدعوى أنها تلتجئ إلى التاريخ وأحداث الماضى. وقال "الراوية مشدودة دومًا إلى حاضر الكاتب الروائى، وإلى الأسئلة المتحدرة من صلبه، وحتى عندما يختار زمنًا تاريخيًا وأجواءً تبعث ملامح الماضى، فإن الروائى يبحث ضمنيا، عن أجوبة تسعفه على مواجهة ما يعيشه هو ومجتمعه فى سيرورة الحاضر واحتمالات المستقبل. لأجل ذلك، أخمن أن الروائيين العرب المجتمعين هنا، للحوار واستعراض منجزات الرواية العربية خلال العقود الأخيرة، هم ممتلئون بأسئلة حاضر المجتمعات العربية".
وأضاف أن هذا الحاضر "حاضر ملتهب بالصراعات الدموية، والأسئلة الحارقة المتصلة بمجاوزة التفكك والحروب الأهلية، وسطوة الأنظمة للحرية الكابحة للحرية والتغيير. هو حاضر متعدد الوجود والقسمات يكتنز من الماضى القريب والبعيد الكثير من السلبيات والمعوقات، وتطفح هبات وانتفاضات شبابية تؤشر على طريق تغيير أسس الدولة والمؤسسات الماضوية، تمهيدًا لإعادة بناء مجتمعات عربية قادرة على الانخراط فى العصر، واستثمار طاقات المواطنين الخلاقة فى البناء، بدلاً من التناحر والهدم، لكن واقع الحال يوضح، بما لا يقبل المزيد، أن أسباب إجهاض نهوض المجتمعات العربية ما تزال مستحكمة منذ عقود بعيدة، وأن غلبة الماضوية وفكرها البائت تزداد توغلاً واستشراء من خلال استغلال الدين لغسل الأدمغة، وتبرير العنف للوصول إلى السلطة؛ ومن خلال جمود الأنظمة الحاكمة المتعمدة على إلغاء إرادة المواطنين، وتجاهل حقهم فى حرية الفكر والاعتقاد والديمقراطية. هو باختصار، حاضر يعانى من النقص والفقدان، نتيجة للعناصر التى أشرت إليها، ونتيجة لأسباب أخرى عميقة يستبطنها التاريخ العربى ومساره الثقافى وصراعاته وانتكاساته الكثيرة".
ورأى د.براده أن الحاضر يعاني "من نقص تاريخى إذا صح التعبير؛ لأننا منذ لفنا ديجور الانحطاط لم نهتد إلى سبيل النهوض والانتفاض، وتكاثفت العوامل التى أشرنا إليها لتخمد جذورة العقل وعزائم التغيير. وكانت مرحلة الاستعمار فرصة لشحذ همة الشعوب العربية وإذكاء روح المقاومة ونشدان التحرر. وأسفرت هذه المرحلة عن بلورة "متخيل وطنى" التحمت فيه السياسة بالثقافة، وعانق المجتمع المدنى خلاله شعارات الدولة الوطنية. إلا أن فترة ما بعد الاستقلال سرعان ما آلت إلى الانحراف عن مقاصد الكفاح، وإلى اعتناق التسلط والاستبداد، ووأد مشاريع المقرطة وتحديث المجتمع تحديثًا عقلانيًا. على هذا النحو، تضافرت عناصر النقص لتسد الأبواب أمام الفكر النقدى، وأمام الاجتهاد الساعى إلى الإصلاح الدينى، وأمام النضال السياسى المنادى بوضع أسس الصراع الديمقراطى. هكذا، من خطاب تبريرى إلى آخر، ومن التعلل بالقضية الفلسطينية إلى التعلل بالخصوصية العربية – الإسلامية، عاشت مجتمعاتنا عقودًا من التجميد والقهر ومصادرة الآراء والأرواح، وجاءت هزيمة 1967 لتكشف الغطاء عن خواء الجيوش والأنظمة، وعن هشاشة الانقلابات والثورات الفوقية. التوازى مع هذا المسار السياسى الدينى المحبط كان الأدب العربى الحديث والرواية تحديدًا يحفران عميقًا فى الطبقات المتكلسة الحاجبة للضوء والرؤية الواعية".
وأكد د.براده إن "الرواية العربية منذ بداياتها المتعثرة أواخر القرن التاسع عشر أخذت تلامس مواطن الجرح والثقوب مقلبة تربة اللغة والخطاب والقيم منذ أحمد فارس الشدياق وسردياته المنفتحة على تعدد مستويات اللغة وعلى معرفة الآخر، ومرورًا بفرح أنطون ورواياته التعليمية الجريئة وتجربة نجيب محفوظ التأسيسية ووصولاً إلى الفترة الراهنة حيث غدت الرواية متنفسا وملجأ للكتاب والكاتبات الشباب فى الفضاء العربى كافة، والإنتاج الروائى يضطلع بدور الاستكشاف والبوح وزعزعة الموروث المهترئ واقتحام مناطق المسكوت عنه. صحيح أن شروط الإبداع والتلقى والترويج لا تسعف الروائيين العرب على ربط صلات مادية مباشرة مع قرائهم، تحررهم من التبعية للمؤسسات المقيدة لحريتهم، إلا أنهم رغم ذلك، استطاعوا أن يتخذوا من الرواية فسحة للقول الجرىء والتجريب الفنى المحقق للمتعة والتباعد عن الابتذال فى فسحة التخييل وجمالية التعبير تتم استعادة إنسانية الإنسان وترسيخ تعلقه بقيم تمجد الحياة وتربطها بالمستقبل".
وقال إن الملتقى السادس للرواية العربية بالقاهرة، يطرح سؤال تحولات وجماليات الشكل الروائى. و"هو سؤال أساس لأن الشكل وثيق الصلة بتخصيص الدلالة وشحذ رؤية الروائى إلى العالم، وإبراز علائقه ومستوياتها المختلفة، فضلاً عن ذلك ارتادت الرواية العربية، منذ ستينيات القرن الماضى، تجريب الأشكال الطلائعية العالمية، متفاعلة معها، مستفيدة من جمالياتها الكونية وحاملة إليها عناصر إضافية مستوحاة من التراث السردى العربى، ذلك أن الرواية شكل تعبيرى إنسانى رافق رحلة الإنسان منذ أقدم العصور، واغتنى بإبداعات مختلفة الثقافات، وبلور حصيلة التفاعلات فى أشكال وجماليات لها صفة الكونية، وتقف على النقيض من روايات "الكيتش" للقراءة الاستهلاكية التى لا تغنى من جوع. وعلى امتداد أكثر من مائة سنة، أنجزت الرواية العربية نصوصًا لافتة حظيت بتقدير كبير وحازت جوائز عالمية، وأثارت انتباه القراء خارج الحدود لأنها تحمل خطابًا يضىء أعماق الفرد وهموم المجتمع ولا تتوسل بالبلاغة المسكوكة التى يتدثر بها خطاب الأنظمة والمؤسسات الرسمية. لكن كل ذلك لا يحجب عنا، روائيين ونقادًا إشكالية العلاقة بين الشكل الروائى والسياق الاجتماعى السياسى المتشظى المحاط بالضبابية وفقدان البوصلة من هذه الزاوية يكتسب موضوع ملتقانا أهمية خاصة. لأن منجزات الرواية العربية حققت مستويات جمالية مهمة إلا أنها تفتقر عند الكثيرين، إلى وعى واضح بالعلاقة القائمة بين اختيار الشكل ومقتضيات الدلالة والرؤية إلى العالم. وهذا الوعى هو الذى يحقق التلاحم بين الشكل الفنى والدلالة، ويحفظ للعناصر الجمالية وظيفتها ويجعلها، فى الآن نفسه، مكونا مضيئا للسياق ومتعاليا به عن الظرفية العابرة".
على ضوء هذه الملاحظة أوضح د.براده "أن الأفق الممكن لمتابعة رحلة الرواية العربية، يرتبط بالمزاوجة الواعية بين الشكل الملائم وتطويعه إلى استيعاب التجارب الحياتية داخل سياق بالغ التعقيد. بعبارة ثانية: توجد الرواية العربية أمام عتبة فاصلة. أن تجسر على طرح جميع الأسئلة الغائبة والمغيبة أسئلة الحاضر أساسًا. المتصلة بتحرير الفرد من كل أنواع الوصاية والحجر وأسئلة تشييد مجتمع ديمقراطى رافض للاستبداد ولشعارات "العادل المستبد"، ذلك أن طريق التخلص من التأخر التاريخى والطائفية والأصولية المتطرفة إنما يبدأ من الإصغاء إلى الأغلبية وفى مقدمها قوى الشباب المجددة للوعى والثقافة، التى تحمى المجتمع من فكر الإرهاب ومن وصاية الفوقيين. والرواية فى نهاية التحليل، وثيقة الصلة بسؤال الهوية المرتبط بالصيرورة وتحولات العالم. الهوية ليست معطاة دفعة واحدة، بل هى موضوع للمراجعة الدائمة وإعادة النظر والتحليل، وفى نفس الاتجاه، تكون الرواية بحثًا وتطلعًا إلى ما كان يمكن أن يوجد ولكنه لم يوجد. الرواية تطلع، إلى تلك القوة الصامتة التى تشرع باب الأمل، وتذكى جذوة التحدى والانعتاق. ومن ثم، هى تستمد جدائل الضوء من التخييل الكامنة عناصره فى الواقع الملموس الذى هو واقع محاصر، مخصى، بحاجة ماسة إلى عوالم متخيلة تنسجها الرواية لتؤكد أن هذا الواقع المأزوم قابل لأن يكون على غير ما هو عليه من سديم وانحسار. من هذا المنظور، تغدو الرواية العربية وسيلة للكشف والتعرية وطرح الأسئلة المكبوتة؛ ويكون تعميق أشكالها وتكييفها إضافة إلى إمكاناتها اللامحدودة التى تحث القراء على السعى إلى تحقيق ما ينقص الواقع العربى بعيدًا من العنف والتدجين والتدجيل"
يذكر أن الدورة الأولى كانت قد خصصت لمناقشة موضوع "خصوصية الرواية العربية"، وأهديت إلى نجيب محفوظ بمناسبة مرور عشر سنوات على حصوله على جائزة نوبل في الأدب، وعقدت الدورة الثانية عام 2003 متأخرة عن موعدها الطبيعي بسبب الظروف السياسية التي مرت بها المنطقة، وقد أهديت الدورة الثانية لاسم إدوارد سعيد، حيث عقدت عقب وفاته بفترة وجيزة، وكان موضوع الدورة الثانية "الرواية والمدينة"، وعقدت الدورة الثالثة فى فبراير 2005 وأهديت إلى اسم الراحل عبد الرحمن منيف، وعقدت الدورة الرابعة في فبراير 2008 وحملت عنوان "الرواية العربية الآن"؛ كما عقدت دورته الخامسة في ديسمبر 2010 بعنوان "الرواية العربية إلى أين؟".
كما أن الملتقى يمنح جائزة القاهرة للإبداع الروائي العربي في نهاية فاعلياته الملتقى، والتي أعلن عن مضاعفة قيمتها المادية لتصبح مائتي ألف جنيه مصري بدلاً من مائة ألف جنيه، وقد فاز بالجائزة في دورتها الأولى السعودي عبد الرحمن منيف؛ وفاز بدورتها الثانية المصري صنع الله إبراهيم؛ وكانت الدورة الثالثة من نصيب السوداني الطيب صالح بالدورة الثالثة؛ وفاز المصري إدوار الخراط بالدورة الرابعة؛ وكان آخر الحاصلين على الجائزة في عام 2010 الليبي إبراهيم الكوني؛ وسوف يعلن اسم الفائز بالجائزة في دورتها الحالية خلال ختام فاعليات الملتقى.
&