كثيفة هي النصوص التي يحتويها ديوان:" أحبك ولكنني" للشاعرة الدكتورة سلمى جميل حداد، وحين نسم النصوص بالكثافة فإن القصد المفاهيمي هنا ينصرف إلى المكون العباري للنص الشعري، وهو مكون لا يقف عند حدود التعبير عن المعنى فحسب ولكنه يتجاوز ذلك إلى معطى أسلوبي واع بما يمكن أن تشكله العبارات الشعرية من عمق، ومن أداء تقني على مستوى السياق وعلى مستوى التركيب المفضي إلى دلالات مشحونة بطاقات مجازية وتعبيرية واستعارية مؤثرة.
&إن التكثيف القادم دلاليا من الحقول المعجمية في " تاج العروس" و" لسان العرب" يعني عبر كلمة " كثف": " الحشد، والغلظ،
معنى كثف في وقد كَثُفَ الشيءُ ككَرُمَ فهو كَثِيفٌ: غَلِيظٌ ثَخِينٌ كاسْتَكْشَفَ. وقالَ اللَّيْثُ: الكَثافَةُ: الكَثْرَةُ والالْتِفافُ والفعلُ كالفِعْلِ. والكَثِيفُ: اسم كَثْرَتِه يوصَفُ به العَسْكَرُ والسَّحابُ والماءُ وأَنْشَدَ لأُمَيَّةَ بن أَبي الصَّلْتِ:
وَتَحْتَ كَثِيفِ الماءِ في باطِنِ الثَّرَى... مَلائِكَةٌ تَنْحَطُّ فيهِ وتَصْعَدُ ويُرْوَى: كَنِيف الماءِ.. وكَثَّفَهُ تَكثِيفاً: جَعَلَه كَثِيفاً ثَخِيناً. وقال ابنُ دُرَيْدٍ: كُلُّ مُتراكِبٍ مُتكاثِفٌ ومنه تَكاثَفَ السَّحابُ: إذا تَراكَبَ وغَلُظَ
ومما يستدرك عليه: الكَثِيفُ والكُثافُ: الكَثِيرُ وهو أيضاً الكثيرُ المُتكاثِفُ المُتَراكِبُ المُلْتَفُّ من كُلِّ شَيءٍ. وكَثَّفَه تَكْثيفاً: كَثَّرَه. واسْتَكْثَفَ أَمرُه: عَلَا وارْتَفَعَ. وجمعُ الكَثِيفِ: كُثُفٌ بضمّتِينِ. وامرأَةٌ مكَثَّفَةٌ كمُعَظَّمَةٍ: كثيرةُ اللَّحْمِ
معنى كثف في والكَثافةُ الكثرة والالتِفافُ والفعل كثُفَ يَكْثُف كَثافة والكثيف اسم كَثْرته يوصف به العسكر والماء والسحاب وأَنشد وتحتَ كَثِيفِ الماء في باطن الثرى ملائكةٌ تَنْحَطُّ فيه وتَصْعَدُ ويقال اسْتكثف الشيءُ اسْتِكثافاً وقد كثَّفْته أَنا تكْثيفاً ابن سيده والكثِيفُ والكُثاف الكثير وهو أَيضاً الكثير المُتراكِبُ المُلْتَفُّ من كل شيء كثُف كَثافة وتكاثَف وكثَّفه كثَّره وغلَّظه ".
&من كل هذه الحديقة الدلالية المصغرة للكثافة نجد أنها تشير إلى حالة من السماكة والغلظ والكثرة، والتشابك، والامتلاء، وهنا فإن المستوى اللغوي للنص الشعري سوف يكون أكثر قابلية للتحميل بطاقات دلالية وتعبيرية وأسلوبية مشحونة، ونامة على الجهد الدلالي الذي ينهض به المبدع/ المبدعة. والشاعرة سلمى حداد تحيلنا بجلاء عبر نصوصها إلى هذه الكثافة التي تتطلب وعيا حادا من لدن الشاعرة بقيمة المفردة داخل العبارة من جهة، وداخل النص بوصفه كلا من جهى أخرى. الكثافة عنوان دال على الأداء الشعري. بل إن أغلب النصوص الشعرية الرائقة تقود إلى الكثافة لأنها تؤكد على أمرين جماليين:

-&أولهما: فاعلية الانتقاء حيث تنتقي الشاعرة الكلمات الأكثر إشراقا وتعبيرا، بغض النظر عن قيمتها الإيقاعية أو الموسيقية، او قيمتها الصوتية.
-&ثانيهما: الإيغال والاستقصاء فيما وراء الكلمات، فيما وراء النصن أو " الميتا-نص" بحيث تعبر الشاعرة بشكل تلقائي تبعا لما درجت عليه نصوصها، إلى تجاوز السطح والوصول بكلماتها إلى أبعادها العميقة.
هنا تتخلص الشاعرة من العابر، وتذهب إلى حيث الرمزي والمجازي والكينوني الجوهري، وهذا ما تنهض به في أغلب نصوص الديوان.
&إن العنونة الاستدراكية التي تبوح بالحب، للآخر، ثم تستدرك بذلك فاتحة أفقا دلاليا للاستدراك القارىء، تريد أن تقدم وعيا جماليا بالآخر، يتبدى في كل هذه الكثافة النصية، وفي هذه الحمولات الجمالية الدالة التي تقدمها الشاعرة عبر (103) نص شعري تشكل محتويات الديوان الذي تستهله بهذا العنوان الاستدراكي، وتختم الديوان بنص يحمل عنوان الديوان:" أحبك ولكنني" كأنها تريد أن تقدم فحوى الديوان جماليا بين قوسي هذا العنوان، وكأن الدلالة تنحصر بينهما، أو تتولد بشكل دائري العنوان يقود إلى النص الأخير، وبالعكس يقود النص الأخير إلى العنوان.
&إننا سنجرب هنا أن نقتطف الدالة الكلية لهذا الأفق الاستدراكي من النص الأخير بالديوان، ربما يشكل مفتاحا ختاميا – إذا صح التعبير- للأفق الشعري عند سلمى حداد التي صدر لها من قبل خمسة دواوين شعرية بالعربية هي:" الرجل ذلك المخلوق المشفر"، " جوف الليل" وبالإنجليزية:" تسونامي وعروس البحر" " البجعة البكماء" و" ظلال الماضي".&
&
الاستدراك الانفعالي:
تتوقف الشاعرة في هاية نصها الأخير بالديوان عند العبارة المؤكدة المفتوحة التي لم تكملها:" أحبك. أحبك ولكنني... " وتتركها على هذه الهيئة، لم تبين هذا الاستدراك إلى أين ينتهي كتابة؟ لكن بالتأكيد هو يقود إلى الديوان بشكل دائري حيث يومىء للعنوان. النص الأخير ربما اختزل رؤية الشاعرة للآخر ، فالنصوص تومىء إليه بدءا وتنتهي إليه على الأغلب، فيما عدا بعض النصوص التي تتوجه للأم أو الوطن أو الأرض.
&ومن فقد الأم كما في:" الأم زهرة برتقال" إلى فقد الوطن كما في " سكاكين القصابين تجز رأس السنة" تعطي الشاعرة سلمى حداد هذا الأفق الدلالي الذي يقتنصه الحزن وتعركه المأساة. إنه أفق يختزل مسافة الرؤية ما بين حنين وفقد وعذاب أبدي، بيد أن الكلمات هي التي تتورط في رصف هذا الأفق وتأثيثه:
تركتُ أحلامي في سلة خبز ناشف
على قارعة المدينة
ورحلتُ ثقيلة أُتأتىءُ الخطوات في نفسي الحزينة
وارتديتُ عري التوت ريثما أرتق أثوابي.
وجلستُ في برد الغياب أغني العتابا
وأفتش عن رائحتي في قشرة ليمونة
أبرشها على أنف الأمل الغائب عن الوعي
سا محينا يا شآم. / ص 16

كما يتبدى من المشهد، ثمة لعب بالكثافة التي قد تؤسطر الصورة كما في " ارتديت عري التوت" أو تمزج المتضادات بوعي بين الرائحة والأمل الغائب عن الوعي، أو تعطل فاعلية الفرح الدلالي في غناء" العتابا".

البنى المتداخلة:
تركز الشاعرة في ديوانها على استثمار ثلاث بنى أسلوبية تتمثل في: بنية السؤال، وبنية النفي، وبنية الاستقبال. الشاعرة دائما ما تتساءل في جل نصوصها، والسؤال يشكل اعتراضا ما على العالم والواقع. لأن الذات المتسائلة دائما هي ذات ترفض اليقينية والتسليم، هي ذات قلقة وراغبة في الوقت نفسه في التغيير، ولذا هي تسائل الأشياء دائما عن وضعياتها.
فيما أن بنية النفي التي ترد أيضا بكثرة في النصوص تشكل بحثا عن أفق آخر، عن عالم مثالي يتجاوز هذا العالم المعهود بصراعاته وحروبه وقلقه وعبثه.
&كيف يمكن لسؤال أو لنفي أن يتجاوز العالم. السؤال تعبير عن عدم التسليم، فرار من هذه اليقينية التي تصيب بالسأم والضجر، بيما النفي هو تعبير عن الرفض الدائم للواقع. الشاعرة في نصوصها تقدم هذا كله لتصل إلى استشراف المستقبل عبر بنية الاستقبال التي تتكرر أيضا في نصوص كثيفة.
&هذه البنى نراها متجسدة بشكل أو بآخر في جملة من النصوص مثل:" على ذراع السراب غفوت، أنامل الأبجدية، أحواض الحبق ببريد الشتاء، اغتيال الشتاء بأوركيدة الاستواء، لعنة الملح في بحور العدمية، أتصفح ظلي على عروق السنديان، شجرة الساكورا اليابانية، الغروب الأنيق، سيمفونية الفراشات، في باريس ذات مطر" وغيرها من النصوص الكثيفة.
إن الشاعرة دائما ما تتحدث عن الفناء، عن زحمة الموت، عن عدمية العالم، عن قبح الواقع، وهي دائما تردد الدلالات التي تنبثق من الموت:
-&لا شيء في صدري يوحي بالحياة ولا الممات/ ص 24
-&لا أريد أن يناديني أحد باسمي
أنا الغيابُ ريثما يعود الزمن الجميل من إجازته الطويلة
وأنا الرحيل ريثما يصحو الطريق من غيبوبة السبيل / ص 25

-&على أرصفة الموت أبيع أحلامي كالكتب العتيقة
وأعيش نصف موت ونصف صمت
كشبح هارب توا من نعش الحقيقة. / ص 151

وتتكرر بالديوان نصوص تحمل بين مسماها مفردة: العدمية، والسراب والعدم، والحزن، كما في ضواحي العدمية (72) وعبثية الوجود وعدمية اللا وجود (73)وغيبوبة العدمية(78) واللا مكان:
أفتش عنك بين شظايا اللا مكان
على طريق العودة من اللا شيء / ص 78
و: نادني باسمي الثلاثي كي توقظ هويتي من غيبوبة العدمية/ ص 79
مع هذه الدلالات العدمية، ومع هذا التعبير عن الحزن وقبح الواقع، تلوذ الشاعرة بدلالات الحنين إلى الماضي تارة وإلى المستقبل تارة أخرى. الحنين إلى المستقبل كفعل نقيض لهدم الماضي هو بحث عن عالم نموذجي مثالي حالة حتى لو تشكل فيما وراء الأبدية.
&بيد أن فعل المقاومة الأبرز الذي يشكل فضاء الديوان، والحقول الدلالية المتكثرة يتمثل في استثمار مفردات الطبيعة.
&إن الشاعرة سلمى حداد تجمل نصوصها بحشد من النباتات والأشجار والزهور. إن الكروم، والبرتقال، والرمانة القرمزية، وعصير التفاح، ونكهة الصيف في خدود الأعناب، وبراعم الريحان، وضحكة البراري، وقفاز الياسمين، ومهجة الثمار، والغصون، والبراعم ،والأنهار، والبحار، والروابي، والجبال، وشجرة الزيتون، وحوض الفل والنعناع، ويساتين اللوز، وسيقان السنديان، ومخمل الدراق، والطيون، وماء الزهر، والنبيذ الكرزي، ورقة النرجس، وشجيرات التين، والجوري، والخبيزة الحمراء وغيرها، تشكل حقولا دلالية بمختلف ألوانها، وأشكالها، هي دلالات تنبث في جل نصوص الديوان تقاوم بها الشاعرة قبح الواقع بشكل ضمني. كأن استعارة هذه المشاهد تشكل فضاء آخر يقاوم العدمية والعبث، ويدلف بالرؤية الشعرية إلى جهة أخرى تسعى للتمسك بأمل التغيير، وأمل الوصول إلى عالم أنقى وأرحب.
&إن الشاعرة وعبر 270 صفحة و 103 قصيدة تقدم فضاء شعريا متنوعا يحفل بقراءة الذات، ورؤيتها للعالم، فيما يقدم ثراء طبيعيا رحبا للأفق الشامي، وللحياة السورية المفتقدة تاريخا وجغرافيا عل أملا ما ينبثق من بين الكلمات. وعلى الرغم من وجود بعض النصوص التي تسعى لأن تلامس الإيقاع الشعري العروضي المعهود، ومن وجود عبارات شعرية تستخدم القوافي التي ربما تكون غير مستساغة نثريا لأنها ستكون بهنا في هذا الفضاء النثري " سجعا" لا قوافي ، لكن هذا الثراء الواسع، وهذا التكثيف الذي تمارسه الشاعرة جعل من نصوصها نصوصا قابلة للقراءات المتعددة التي تبحث عن دلالات، وعن تأويل، وعن نسيج مختلف لصور شعرية تقدمها الشاعرة مستفيدة أحيانا من تجربتها في قراءة الشعر الغربي وترجمته. وهي صور تحف بالأفق التخييلي من جوانب متعددة أكثر ثراء وأبعد رؤية.

&