يصدّر الشاعر عبدالقادر الجنابي كتابه الجديد الذي يقدم فيه لأربعين قصيدة اختارها من شعر الشاعر الراحل أنسي الحاج، بعبارة لهارولد بلوم تقول: "يؤثر الشعراء فينا لأننا نقع في غرام قصائدهم". العبارة تقود بمباشرتها إلى هذا الغرام الكامن فينا كقراء. والشاعر قارئ من طراز مختلف خاصة حين يقرأ الشعر. هو قارىء ومبدع في الوقت نفسه، وهو قارىء وملهم ومتنبئ وراء. وحين يكون القارئ هكذا فلابد أن تكون قراءته مختلفة تماما عن القراءة العادية، أو القراءة العامة. ستكون قراءة مونولوجية – إذا صح التعبير- فيما هي قراءة ديالوجية تحاور من تقرأه بشكل ضمني.
إن قراءة الشاعر عبدالقادر الجنابي وهو السوريالي الذي ينضح شعره بسوريالية جلية غضة وسامقة معا، لشعر أنسي الحاج في هذه المختارات التي تحمل عنوان: "أنسي الحاج: من قصيدة النثر إلى شقائق النثر – مختارات من أشعاره وخواتمه" (جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 2015) تقفنا هذه القراءة على رؤية الجنابي للشعر من جهة، ورؤيته لشعر أنسي الحاج من جهة أخرى، فالكتابة عنه هي كتابة قريبة - ربما بطرف خفي تستعير عبارة هارولد بلوم وتقع في غرام القصائد الأنسي حاجية - يتداول فيها القارىء رؤاه ما بين أفق مونولوجي يعبر عن ذاته الكامنة وتبصرها لحالة الشعر، معناه ومنطقه، وبين أفق ديالوجي يتحاور فيه مع ما جاء به أنسي الحاج منذ ديوانه الأول: "لن" ( بيروت 1960) الذي أصدره أنسي وعمره 19 عاما.
ومن هذا الديوان: "لن" يستهل الجنابي رؤيته بقراءة بعنوان: "عندما قال الشعر للجميع: لن" حيث يرى بدئيا أن "تجربة أنسي الحاج الشابة تتميز ب" خضة تمرد صحية" لم تنطو عليها تجارب شعراء جيله، ولا الشعراء الذين كانوا قبله، تجربة لها تأثير " منبه يوقظ ما هو كامن أصلا" في القراء".
ويضيف الجنابي:" تراكيب شعر الحاج وصوره، وليدتا صراع اللغة العربية مع نفسها كتعبير وكموئل صور" وهو: "قد وسع القول الشعري باستخدام ألفاظ تبدو لمجمل شعراء حقبته الحديثين، فاحشة ونابية، بينما أثبتت أنها أشبه بمصل يزيد من الطاقة الشعرية للقصيدة". / ص 12
وبرؤيته المتماهية مع المنتج الشعري – الرؤيوي- لأنسي الحاج يواصل الجنابي قطف توصيفاته لهذا المنتج بعبارات متعددة مكثفة يمكن التقاط مدلولاتها الناقدة/ القارئة بشكل واع حال تأملها في يقين تساؤلاتها، وما تعرضه من خواص.
ولنا أن نختلف أو نوافق على ما يطرح، بيد أن الجوهري في هذه الكتابة الجنابية أنها تشرقُ كثيرا ذاهبة إلى غياباتها هناك فيما وراء الوعي، بمعنى أن التحديق فيما يطرح قد يستثير أسئلة كثيرة عند تحكيك ما يقوله الجنابي نقديا إزاء تجربة أنسي الحاج.
شعرية متمردة:
التمرد، وكسر القديم، وهدمه، من خواص رؤية الحاج الشاعرة، إذ يقوم شعر أنسي الحاج – فيما يوضح الجنابي- على كسر البنية الكلاسيكية لمسار الجملة العربية وتركيبتها البلاغية، فاتحا تنسيقا جديدا للكلمات من حيث نظام تتابعها النحوي، وكأن اللغة هي التي تحدد موضوع القصيدة وليس الموضوع الخارجي هو من يحدد لغة القصيدة وبالتالي موضوعها/ ص 14
وكلمات الحاج تحدث "انزياحا جديدا في الحقل الدلالي المطلوب لفهم الجملة"، كما أن "في شعره ليس ثمة قصيدة واحدة تعبر عن أي قضية ينتظر جمهور تعبيرا شعريا عنها، بل ليس ثمة قصيدة واحدة فيها صدى لما يجري من أحداث اجتماعية، سياسية.. إلخ " / ص 15 &
كما يعتمد أنسي الحاج في كل أعماله "على كلمات الكلام وليس على كلمات الكتابة" / ص 16، وكان يفضل تسمية: "مجموعة شعرية" على كلمة "ديوان" لما يشم فيها من رائحة القدم والكلاسيكية / ص 18.
ويتألق الجنابي كثيرا في وصف شعرية أنسي الحاج باعتبارها شعرية متجاوزة، متمردة، خلاقة، بيد أن ثمة آراء أخرى يمكن أن نتوقف عندها خاصة فيما يتعلق بأولية الحاج في تقديم الوجه السوريالي للقصيدة، فثمة سباقون من الشعراء على الأقل هناك ديوان: "سوريال" لأورخان ميسر وعلي الناصر الصادر في أربعينيات القرن العشرين، وثمة عناصر أخرى سوريالية ربما لدى المدرسة السوريالية المصرية عند جورج حنين ورمسيس يونان وألبير قصيري وغيرهم في الأربعينيات أيضا، وموضوع عدم اكتمال الجملة الشعرية نحويا ودلاليا موجود بجلاء في " سوريال" أورخان ميسر وعلي الناصر.
كما أن مقولة الشاعر عبدالقادر الجنابي:" الجديد لدى أنسي الحاج متعدد، إذن، فألم يكن أيضا الشاعر الحديث الأول الذي أنقذ شعر الحب في العربية، من الرومانسيات والمجونيات معا، ليضعه في مقامه الحقيقي الإيروسية المتسامية" ؟
ربما لا ننسى كثيرا الشعر الرمزي والشعر الصافي الذي تسامى عن المجونيات لدى بشر فارس مثلا، أو توفيق مفرج، أو حتى أورخان ميسر، حتى نزار قباني وهو أشهر من كتب قصيدة الحب عربيا في عمله: "سامبا" كان صافيا ومتساميا وحول قصيدة الحب إلى رقصة متسامية خارج الجسد وخارج الجنس.
نعم لأنسي الحاج رسالة تحررية، وأثر كبير في تحويل دفة اللغة الشعرية جماليا ودلاليا، وله أثره على شعراء الشباب، لكنه لم يحدث هذه القطيعة الكاملة مع مشهد الأداء اللغوي، أو بتعبير الجنابي :"يعتمد على كلمات الكلام وليس على كلمات الكتابة"
ففي "ماضي الأيام الآتية" يلج الحاج إلى عالم الحكاية الشعبية والأسطورة، كما في نص "العاصفة" ونص: "داناي والزئبق" ( 9)، كما يكرر دلالات الجسد، والطبيعة، وتكرار أسماء الشخصيات، بيد أن الأمر الملفت هنا هو أن النصوص بدأت تكون أكثر اكتمالا بالنسبة للعلاقات النحوية في النص، وأصبح هناك اكتمال للجمل واكتمال للمعاني، وانفتاح للدلالة، فضلا عن التكرار، والجمل الطويلة، والتخلي عن الحذف المخل بالمعنى.
وهذا الاكتمال للمعنى، هو ما يفعله الحاج في ديوانه / القصيدة: "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" الذي يوظف فيه قصة الخلق، ويحتفي بدلالات الخلق:
هذه قصة الوجه الآخر من التكوين
&وجدتها وعيناي مغمضتان
فالطريق حبيبتي
قادم من انتظارها لي
قادم من رجوعي إليها
هذه قصة الوجه الآخر من التكوين
اسمعوا
لا تغلقوا الأبواب
الموج يحمل الرسالة إلى الريح
والريح إلى الشجر.

كما في الرسولة تخلى الحاج عن معجمه الشعري الحاد، الصادم، ودخل مرحلة أكثر تأملا وشفافية صارت فيها الألفاظ والتعبيرات أكثر صفاء بالقياس إلى ديوانيه: "لن" و"الرأس المقطوع" وربما لارتباط تجربة ديوان: "الرسولة" دلاليا بتجربة الحب، واستثمار الأجواء الجمالية لنشيد الإنشاد بصوره التي تركز على الطبيعة، وتكوين علاقات جمالية بين عالم المرأة وعالم الطبيعة، شكل ذلك نوعا من تحول الأسلوب الشعري لدى أنسي الحاج في هذا الديوان.
أما في ديوان: "الوليمة" فإن أنسي الحاج عاد إلى صفائه في "الرسولة" وإلى هذه اللغة الغنائية المشحونة بالتوتر، وهو طرح في هذا الديوان قصيدة الحب في ساقها الغنائي، إلا أنه حب مواجه بالموت دائما، والبارز في هذا الديوان تخلص الحاج من سمات لغته الأولى في " لن " التي كانت تمثل بواكير عمله الشعري الأولي، وما فيها من تمرد إنما يعود إلى هذه اللحظات الفتية الأولى التي كان أنسي يريد أن يطل عبرها على عالم شعري مغاير لسياق الشعرية العربية.، وهنا يصبح الحب معادلا للحرية:
الحب زهرة الشفقة
السماء سقف السجن
ولكن لا شيء يخنقني
لأن غرفتي بلا جدار
ومعلقة بين الأرض والسماء.
ويحتفي ديوان الوليمة الذي يقسمه الشاعر إلى أربعة أقسام هي: يا شفير هاويتي، سراح الليل، الهارب، الوليمة " بالإشارات الكثيفة إلى عالم الكتابة الشعرية، كما في نصي:" وفاء العصافير" وهو نص يبين فيه الحاج رؤيته للأوزان الشعرية، ويرى أنها " عصافير تبكي في أقفاصها " وأن البحث عن الحرية وإيمانه بها جعله يتخلى عن هذه الأوزان. ونص:" الوليمة " وهو يعبر عن رؤيته للشعر والشعراء، هذه الرؤية التي يراها في الاختلاف، وفي كتابته عما يومىء إليه: "لست معكم.. لا تدخلوني.. أنا محتاج أن يشبهني كلامي"

خواتم: الشوط الثاني
ويعنون الجنابي قراءة أخرى قصيرة في مقدمة المختارات بعنوان: " خواتم: الشوط الثاني من التجربة" ويبرز فيها أن (خواتم) أنسي الحاج مصاغة من شقائق النثر، وهو يتجلى أيضا هنا – الجنابي- في بيان وإيضاح مفهوم: "شقائق" ليصل إلى أن "الشقيقة لدى أنسي الحاج هي الحالة المستسلم لنهشها، وإنها شكل وليسر جنسا أدبيا إذ ليس لها قوانين مقررة، كقصيدة النثر مثلا أو الشعر الحر" وهي "شكل المكتوب، ووحدة نثرية مستقلة تبدو وكأنها ندبة جرح غائر في السرد/ ص 30
ليخلص في النهاية إلى أن الإيجاز يتميز في "خواتم" بتلقائية تمنح فرصة للروح لصوغ فكرة أوسع مما للتعبير، ذلك أن حركة الكتابة هي عين حركة القراءة، في كل تقطع توقف، ينهض ظل، حضور بلا حاضر، يعيدنا إلى عتبة النص لكي ندخل من جديد. / ص 33
ويختار عبدالقادر الجنابي أربعين قصيدة أو أربعين نصا من شعر وكتابات أنسي الحاج من عدا: "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" باعتباره " ملحمة غنوصية مترابطة بإيقاع متدفق بحيث أي اجتزاء يحدث خللا فيه" / ص 36
المختارات تقدم وجها ضافيا من وجوه تجربة أنسي الحاج المتفردة شعريا، ومع أن المقدمتين أو القراءتين اللتين كتبهما الشاعر المبدع عبدالقادر الجنابي تستقطران رؤى مونالوجية ديالوجية ربما بالتماهي مع هذه التجربة والوقوع في غرامها – بتعبير هارولد بلوم، أو بالحوار معها، وقراءتها منهجيا إلا أن آراء وفيرة يمكن مجاذبتها أطراف السؤال، خاصة حين نتأمل هذه الفقرة من شهادة أنسي الحاج المنشورة بمجلة نزوى (نوري الجراح: شهادة أنسي الحاج مجلة نزوى، سلطنة عمان، العدد 29 يناير 2002 ص. ص 38-46 ) حيث يقول أنسي الحاج:
"لم أكتب هذه النصوص لأصرع الأدب العربي أو لأدمر التراث أو لأخرب اللغة، بل كتبتها لأعبر عن حب، وبكل بساطة لتنشر في جريدة يومية، أي أنها كانت بعيدة كل البعد عن القصد الأدبي، وليس ذلك فحسب، بل إن هذه القصائد قد نشرت باسم امرأة ( ليلى ) فلم يكن لدى جريدة النهار آنذاك محررة لشؤون المرأة، فكنت أحرر هذه الصفحة من جملة أشياء أخرى، وكان ينبغي لهذه الزاوية الصغيرة الموجهة للمرأة أن تكتبها امرأة، هذه اعترافات تبدو مذلة، لكنها هي الحقيقة".

&