ليس كلُّ كتاب يحظى بقدسية القاريْ. الكتابُ الذي أهدانيه الكردي الغامضُ ذو غلاف أصفر عليه خارطة بلد مجهول بلا هوية. فكتب عليه اهداءً مطوّلاً تكاسلتُ في قراءته. لكني تقبلته بفرح، فأنا في مكان مجهول، ومَنْ أراهم حولي غرباء. اذاً، ثمة خطأٌ أو خطيئة هنا. طرحتُ على الذي لم أرَ وجهه أسئلة فما حظيتُ باجابته. تلكّأ، بل تواطأ على الصمت. بيدَ أنّ ما في يدي كنزٌ في هذ الصقع المنسيّ. كانوا يجرون اختبارات سريعة لبعض الحضور فيتلقّون هدايا، حفّزتُ نفسي على المشاركة، فأحجم المُمتحِن عن دعوتي. قبلاً، قبلَ أن أغشى ذا المكان كنتُ برفقة أخي الذي دوماً كان يسبقني، يخوض في مياه عكرة بلون الطمي، تُرى الى أين يذهب ويأخذني معه؟ لم أساله عن بغيته، بل تبعته بعشوائية هادئة. اخترقنا دغلاً مائيّاً مكتظاً بالأحراش. انتهى ذا الشريطُ المائي كما اختفى أخي. انّه دوماً يدعوني الى رفقته، لكنه يتخلّى عني فجأة ً من دون أن يترك أثراً. مضيتُ وحدي معتمداً على حدسي، ثمّ رأيتُني خللَ ذي القاعة الصغيرة تضمّ عدداً من الناس. تُرى لمَ جاءوا. ومَنْ أحضرهم ولأيّ غرض؟ وحين ناولني الشاب الغامض ذاك الكاتب أردتُ أن أقول له: لديّ أربعة عشر كتاباً، واودّ أن اهدي اليه عشرة منها. فما واتتني فرصة ٌلقول ما عندي. الرجلُ موجود ولا موجود. فكيف احاوره وهو الحاضر المتخفّي؟ كنتُ فرحاً بالكتاب، سأنزوي في زاوية وأبدأ بقراءته. لكن / حسن/ ابنُ خالتي جاء من صقع موته المنسي ليأخذني: ستأسنُ لو بقيتَ هنا / أخذ الكتاب من يدي ورماه فوق طاولة فارغة وخرجنا، اتذكّر أننا عبرنا جسراً الى جهة ثانية، واستقبلنا فضاء خاوٍ فسيح لا تتمرأى لنا نهايته. عندئذ صحوتُ، تبعثرت ساحةُ الحلم، وسمعته يهمس: حين تعود الى فراشك أطلبني ان احتجتني. ابتسمتُ مع ذاتي. حتى رأيتُ ابتسامتي تضيء الممرّ بين غرفة النوم والحمام، فمَنْ يحتاجُ اليك أيها المُندثر طيّ الغياب من عشرين عاماً. بيد أني اشتقتُ الى العود لتلك القاعة. سأتخذُ لي مكاناً اجلس فيه لصق الطاولة واستغرقُ في القراءة. لكنّ اكثر الأمنيات لا تجد منفذ ضياء وتنطفيء.
آه ٍ من الكتب التي لم أقرأها، هي تُناديني من مكمن ما، لكنْ، كيف الوصولُ اليها؟ وتجيئني أحياناً في أزمنة الحلم، اتصفحها، أعاين بعض صفحاتها، ولا تُتاح لي فرصة ُقراءتها. فما فائدتها اذن؟ نحن، أنا ومَنْ هو مثلي، محضُ عابرين، رائين، مبحلقين، ومحلقين حول الكتب لا يسعنا اقتناؤها. اعرفُ ان آخرين مثلي يحظون بالكتاب وبسهولة، لكن يرمونه تحت المقعد ثمّ ينسونه طيّ الأغبرة. ولي صديق واستاذ مرموق ورئيس قسم اللغة العربية تصرف مع كتابي الذي اهديته إياه، قبل عشرين عاماً، وأنا موقنٌ أنه لم يقرأه حتى الآن.
&نحن على حافة زمن رُمينا فيه خارج مدائنناوفي صقع ٍالكتابُ فيه أبعد من نجوم السماء. فلنكتف ِاذاً بزاد الحلم نزدرده بعيوننا ولا تنبس بسطوره ألسنتُنا.
اليقظةُ صبحاً مواعيدُ حساب وإعادة صياغة. فكم حلماً تراءى لي في ليلتي الفائتة؟ أربعة أحلام طويلة، يكادُ يكونُ كل واحد حكاية، والصور جمّة ٌ تضاهي حبات عنقود العنب الذي سال ظلي الى جواره فما مددتُ اصبعاً لالتقاط حبّة. مثلُ هذه الأمانة بلادة ٌ أيضاً، فالانضباط الأخلاقي يلاحقني حتي في سوح الحلم. اليس هذا تفريطٌ بالحرية على حساب المبدأ الطوباوي؟ أعرف جدليّاً أن الحلم سوح فرص نحظى فيها بما لا يُتاح لنا الحصولُ عليه في صميم الواقع اليقظوي. فلمَ هذا الانضباط اللامُبَرَرُ واللامُجدي؟
مرة ً أخرى يجيء كتابٌ لكنه متهريْ، حين قلبته وجعلتُ صفحاته مفتوحة نحو الأسفل تساقطت منها أعدادٌ من الدود كبيرة وصغيرة، انتشرت خلل العشب الناعم ، ستتكاثرُ وتكون طعاماً للعصافير الجائغة. كنت اجلس على نتوء القمة الخضراء ، مددتُ رأسي وبحلقتُ في الجهة الثانية، تمرأتْ لي سطوحُ البيوت والمباني والشوارع فسيحة وضيّقة. لكن المدينة خالية من الناس، وربّما كان صباحاً صيفيّاً لم يستيقظ الناس بعد، الكتاب الذي اعطانيه صديقي له عنوانان، كلّ عنوان جملة من كلمتين . حملتُ الكتاب ومضيتُ برفقة مؤلفه الذي يروم التأكد من أني سأقرأ كتابه. لم اعطيتني هذه النسخة المهلهلة؟ سألته... كانت في متناول يدي، أجاب.ثمّ اختفى كلانا ، ولا أذكر أني قرأتُ كتابه ذاك . ففي أصقاع الحلم نرى كتباً أو نحظى بها، لكنّنا لا نقرأها. هي تأتي أشبه باشارات وعنوانات وحسبُ. وكتاب نعيم، هذا كان اسمه، من ذا القبيل.
تُرى ما كان يروم قوله في كتابه؟