للقصيدة بنية شكلية ودلالية لدى الشاعرة عفت بركات، وهي حين تقدمها في إطارها التجريدي الذي يحتفي بالغياب أكثر من احتفائه بسرد التفاصيل، إنما تقدم بنية متماسكة صلدة لذات شاعرة تواجه العالم جماليا. إن الشاعرة لا تكتب كتجميع نصوص في ديوان، أو لتؤالف بين متباعدين أو مغتربين نصيا، لكنها تقدم بنية نصية متساوقة، ترتكز على تشكيل فضاء موحد وإن تعددت قرءاته أو تأويلاته.
&ولذا فإن القصيدة عند الشاعرة ، وفق هذا الوعي، مفتاح لصياغة حدث، سواء كان هذا الحدث داخليا ذاتيا، أم حدثا واقعيا موضوعيا .
&في ديوانها:" مدارات قمر غجري " تجلي الشاعرة قصيدتها بكلمات أكثر تركيزا، إنها تلعب أكثر على الوعي، وتتحرك هناك في منطقة الغياب الذي قد يقد بعض أطراف الكتابة من نواصيها الواقعية اليومية، لكنها لا تتداعى مع هذه الأطراف قدر تداعيها مع المحتمل، والمتسائل، والمستشرف. القصيدة عند عفت بركات حالة انطواء جمالي للداخل أكثر والخارج هو مسرح تجليات لقراءة الذات ورؤيتها للوجود.
&وتقسم الشاعرة ديوانها الذي يتشكل من (17) قصيدة إلى ثلاثة أقسام : مدار أول، مدار ثان، مدارات أخر. وتعتمد الشاعرة البنى القصيرة المكثفة فضاء شكليا لنصوصها، وهي إذ ذاك تتضامن بوعي ما مع السياقات الشعرية الراهنة التي ترى في الكثافة عنوان أوليا للأداء الشعري، خاصة وأن الالتفات للداخل، للذاتي يشكل اليوم ظاهرة شعرية نسوية جلية .
&وأجلى ما يتضح لدى الشاعرة بداءة هو تركيزها الشديد في ترتيب قصائدها سواء على المستوى الدلالي أم على المستوى النسقي والسياقي حيث التقسيم المبدئي للمدارات، وتساوقه مع العنوان:" مدارات قمر غجري" كما أن القصائد نفسها تستهل أحيانا ب" مفتتح" أو " ولوج" أو " ختام" وهذا التقسيم المرتب قد يفضي إلى عناية الوعي الشعري بنهايات المقاطع وبداياتها، وقد يحد – أو لا يحد- من الدفق الشعرين وهذا التقسيم أيضا على الرغم من كلاسكيته في القصيدة الحرة أو لنقل التفعيلية على الأخص ، إلا أن إصرار الشاعرة على حضوره له ما يبرره شكليا على الأخص لأن الديوان ينقسم إلى مدارات، وهو الأمر الذي يتعالق بعنونة الديوان، وبشكل دلالي مباشر يتعلق بوجه القمر ومنازله المتعددة.

أقمار تحتضر:
لا ينأى الإهداء بعيدًا عما ينطوي عليه ديوان:" مدارات لقمر غجري" فحين تقول الشاعرة فيه:" إلى أقمار تحتضر في فضاء هالتي" فإنها تؤكد على هذا اليقين الشعري الذي تكاد تتوارى فيه صورة الأقمار في هذه الهالة الكبيرة: هالة الذات التى ترى وتشف وتبوح عما بها . إن تسمية الديوان ب" مدارات" تطل من هذه الدلالة النورية القمرية التي يسري فيها القمر في مداره، مجددا صورته في منازل متعددة، فالشاعرة واعية بتسمياتها وبمجالات بدئها وختامها& فتبدأ بمدار أول ثم ( زغب) في النص الأول كأنه يستهل هلاله الدلالي الطالع، ثم تمضي بعد ذلك لمشارفة نصوصها . كما أن الشاعرة واعية ببناء نصوصها وبناء محتواها الجمالي.
&ففي قصيدة ( ولوج) – تمثيلا- تبدأ ب" مفتتح" ثم خمسة مقاطع أو مشاهد ثم تنتهي ب" ختام" . هذه البنية الواضحة تحدد إلى حد بعيد المدى الشكلي الذي تنطلق منه وبه الشاعرة إلى صياغة محتواها الشعري.
&إذن نحن حيال مدارات متعددة، تنتج عنها دلالات متعددة أيضا . عفت بركات تقدم لنا تنويعا دلاليا ممهورا بالكثافة، فهي تتناول شعريا : الأنا، والآخر، الرؤية التي تطل على الكون، وتعانق تفاصيله، الرؤية السماوية التي تحدق في البعيد والمطلق، عالم المدينة، الحب، الجنس، الروح،المقدسن الأسطوري، الصوفي، و الرثاء أيضا ليس بعيدا عن أفق الديوان ورؤيته.
&وللوهلة التعبيرية الأولى تصدمنا الشاعرة بهذا الحداد السماوي في قصيدة " زغب" :
هذا الصباح
تشاركني السماء البكاء
لم انزعجَ المارة
إذ تمطر جرادا كثيفا
يقيم الحدادْ / ص 8
شدة الحزن، قسوة البكاء تحفز على مطر سماوي من نوع آخر، تمطر جرادا كثيفا. الجراد شكل لحداد مأساوي، كأن الصباح ينتقل لزمن آخر، زمن &أكثر مأساوية مع ذلك تصغي الشاعرة لصنع مفارقة سريعة:" لم انزعج المارة" كأن هذه الماساة أمر عادي ، يتكرر كل صباح، فلا داعي للانزعاج منه.
&إن الشاعرة تشارف بقدر من الإيحائي، والرمزي. هي لا تقدم نصوصها بشكل تعبيري مباشرة. كأن كثافتها عنوان للأداء. كأن الحذف يتربص بالتعبيرات، أو بالأفق العباري للنصوص.
&ثمة رؤية كونية تحفز الشاعرة أحيانا – بشكل ظاهراتي انطولوجي- على التأمل، وعلى قراءة الوجود بعين رائية. إن الشاعرة هنا ستستدعي دلالات بعيدة فيزيقية وميتا فيزيقية، وهي لحظتئذ ستكون في حال تمرد حالم، أو حلم بالمطلق للملمته في القصيدة واستقصائه واكتشافه. هنا ستتجاوز للأعلى للغياب، للأفق، ستتخطى المحسوس إلى المعقول، وهنا تتجلى حرية الرؤية في شكلها المطلق، ولا يتبقى سوى قيد اللغة بما تدل عليه من معان وتآويل، وقيد ارؤية نفسها وما تقدمه من صور ودلالات.&
&
مكابدة الرؤية:
في مدار ثان تطل الشاعرة بولوج أول، كما أطلت ب" زغب" في المدار الأول، كأنها دائما في حال استعادة للبدء سواء بدء الكتابة أم بدء تجلي الذات الشاعرة في وجودها الإبداعي، تقول في ولوج:
هذا الذي لينأى:
كابدته
بي تعلق على البعد أكثر
قلت: ذات صبح
-&أحبك-
فطالعني جرح. / ص 24

النأي والبعد، ربما لرؤية أدق.كيف تكون العبارة هنا :" نأي وبعد" وتعلق في الآن نفسه؟ . إنها رؤية الشاعرة التي تدرك أبعاد العمق، وتهوى التأمل في المطلق. وهذا الولوج يقود للنص الباحث هناك في الدلالات القصية التي تستشرف بها الذات الشاعرة عالم البعيد، لتقربه في بوح صوفي متوحد:
هذا الذي لا يشبه العباد
خلسة
يفك طلاسم البلاد على جبهتي
يمشط حلمها الغجري
بتوت الله
يزركش الرئتين
لعرس جديد يهيء
يبسط الكون موائد
لحكايا اللوز
وكطفل قروي يهدهدني
يغزل السعف عيدا للسواقي
يهديني أنامل ملائكة
تعبث بالوريد . / ص 25

بالتأكيد. إن التعالق بين الكوني والصغير، بين المعقول والمحسوس يصنع حالة شعر تأملية خصبة لا حالة شعرية فحسب، فالشعر فيما يوغل ويسبر يصنع أيضا مظهرا من مظاهر لعب الوعي بالأشياء، فمن هذا الذي يستطيع أن يفك طلاسم البلاد على جبهتي ، فيما تبوح الشاعرة، إلا كائن أسطوري أو على الأأقل كائن لا يُرى ولكنه يُعقل عبر الوعي وهو له قدرة أن " يبسط الكون لحكايا اللوز" . إن هذا التعالق بين الحسي والعقلي خصّب جملة من الصور غير المألوفة في نصوص الشاعرة حتى أوصلها إلى صورة:" أنامل الملائكة التي تعبث بالوريد" .

&لقد أكدت الشاعرة على قيمة مثلى هنا تتجلى في أن القصيدة حين تستقصي وحين تمزج ببسالة بين الحسي والعقلي فإنها تصبح أكثر حراكا وانطلاقا وحرية لا تسجن نفسها كثيرا في لحظات اليومي أو المألوف، وتقدر أن هناك مناطق أخرى نائية يمكن استعادتها عبر شوق الكتابة، وبالتأملن والفكر عبر الشعر، لتصبح مساقط للتفكير ومنابع للرؤيا.

مطلق الدلالة:

مع هذا الأفق الذي تصنعه الشاعرة عفت بركات ستضحى الحقول الدلالية أكثر استيعابا لما هو مطلق: الآلهة، الكواكب، المدارات، الفضاءات، ويصبح للصغير ثمة تألقا ولو بسيطا في صنع الصورة أو المشهد الشعري لو تلاقى مع هذا الكوني المطلق، كما نرى في هذه البسمة الشعرية:
بسمتكَ تخصّبُ الكون
تمطرك آلهة أخرى
ف
ت
ع
ر
ض . / ص 27

أو كما يدلل هذا المشهد:
تتغامز البيوت للنخيل
حين:
نبدأ طريقنا اليومي لفرح مراوغ
طفلان:
يلهوان باستدارة السماء
وتصدح نجوم لبراءة الله
حين بقبلة تودعني:
تصبحين على قلق. / ص 28

&ومن الملامح الأثيرة في الديوان : تحقيق ثنائية المشهد الشعري بين الأنا والآخر، ثمة مشاهد شعرية كثيرة يتضمنها الديوان تحقق هذه الثنائية، وكأنها حوار بين طرفين، أو كأنها لقطتان متماهيتان في تجربة ما، أو كأنها بوعي بعيد تعبر عن طرفي الصيغة الإنسانية ( امرأة- رجل) كأن الشاعرة تقدم هذه الصيغة الإنسانية شعريا لا لتقدم وعيا ضديا بالضرورة بقدر ما تقدم وعيا متكاملا بالأشياء. وتتكرر هذه الصيغة في نصوص متعددة بالديوان مثل، جذوتان، والتحام، وعناق، تقول في (عناق) ولنلحظ أن العناق يكون بين طرفين:

كزهرتين
كنا نسير محاذاة الساحل
يلثم كفي المرجان
يغتسل حليب براءتي
ويجوب صمتي الوسيع
....
أحبك
قال معلنا على الجميع
لترقص نجمات
وتخاصر زبدا شفيفا
فاشتعل المساء
لعناقنا الكثيف . / ص 39
فالثنائية ملمح أثير لدى الشاعرة، وهي ثنائية تنضوي ضمن الثنائية الأكبر، الذات والآخر، أو الذات والعالم. وهي بموجب دلالي شعري يمكن أن تتماهىن لتصبح الأنا والآخر معا في نشوة مواجهة العالم، كما في " التحام" :

ضدان كنا
ذات شتاء
صبنا البحر في نشوة
فالتحمنا . / ص 38

وتبزغ صور القمر وأوجهه كملمح دلالي أيضا لدى الشاعرة، القمر الوجه، والقمر في أوجه الناس، والقمر في وجه العاشق، ولعل تعبيرا بواحا مثل:

أفر لمدن لا تحمل وجهكَ
وحدي:
أخطو المساء ليخلو لي وجه القمر
وكقطة سيامية
يحملني إليك . / ص 29

يكثف هذا التعبير بنية تصويرية حاضرة بكثافة في الديوان، ترسمها العلاقة بين وجه القمر ووجه العاشق الذي يغيب في محاق اللحظة ويظهر تارة أخرى. والتأمل فيه تأمل في وجه عاشق غائبن كأنه عاشق قادم من الأساطير. كما تطل من وجه القمر أوجه أخرى، " وجه القمر" قناع ضوئي/ لا ضوئي معا يشف عن وجوه الآخرين، حتى إن وجه العاشق تستعيده الشاعرة عبر تصوير القمر كوسيط مؤقت. فيما إن دالة " الوجه" نفسها تمتزج وتتكرر بدلالات كثيرة لتعبر عن محاولة وسم معرفة ما بالشيء، ومن هذه الدلالات:

-&في وجوه المارة أسفل نافذة الحلم.
في ملامح شارعك الظمآن.
-&يصفعني وجه شرفتك الموصدة
-&بحر عصي جاءكن قد استحم بنور وجهي.
-&لم أقسمت بوجه البحر؟
-&لن يمنحك وجهي مصادفة.
ولا يخفى على القارىء العلاقة الدالة بين القمر والوجه، وهي علاقة اثيرة شعريا منذ تجلي التشبيه الكلاسيكي :" وجه كالقمر" .
&إن الشاعرة تنقلت كثيرا في نصوصها بين التعبير الشفيف عن الذات، واستثمار بعض الملامح الدلالية التي تومىء فيها إلى تجليات كونية، وإلى القطع مع مما هو يومي لتتقاطع مع ما هو مطلق ، مع غياب أكثر تحضر فيه العبارة الشعرية لتجسد المعقول، وتتسامى بالصغير ليعانق الدلالات السماوية والكونية مخصبة في هذا السياق أحلاما جديدة بالصور.
&إن عفت بركات التي قلصت إلى حد بعيد الإطناب والاستطراد، وكثفت جملها الشعرية وتنقلت أحيانا بين رؤى رومانسية إلى سوريالية وصوفية، حاولت أيضا في مسعى دلالي واضح المزج بين رؤية الشاعرة للعالم، وأيضا رؤيتها للمدينة، وللواقع الذي يتجلى بماساويته خاصة في حادثة احتراق المسرحيين في حريق مسرح بني سويف الذي احترق بشمعة وراء الستار أثناء عرض المسرحية،& سنة 2005 وهي الحادثة المأساوية التي عبرت عنها الشاعرة بقصيدة دالة هي:" رماد" وحلوت أبطالها إلى راقصين في الغياب مستثمرة عنوان المسرحية ووجوه حاضريها.
&وتعبر القصائد عن غياب دائم للفرح. ربما الفرح يتبدى أحيانا وبشكل أسطوري في اوجه القمر، لكنه فرح مؤقت كما تعبر في " بورتريه:
وحيدة
الراقص فوق روحي ما عاد
يمطر
الفرح . / ص 11
متى يأتي الفرح؟ هذا هو السؤال المسنون الذي تشهره الشاعرة في مدارات قمر غجري، وهي مدارات ربما ندور فيها جميعا في انتظار لحظة الضوء، والرحيل عن أزمنة المحاق.
&