بغداد: على الرغم من عذوبة الشعر الذي يسكبه في غناءاته لاشياء تغمر روحه وتتنفس في قلبه الا انه لا ينسى انه يعيش في واقع يستحق منه ان يحزن ويتألم.

صدرت للشاعر العراقي طلال الغوار مجموعته الشعرية التي تحمل عنوان (احتفاء بصباحات شاغرة) عن دار بعل بدمشق، تقع المجموعة في 128 صفحة من القطع المتوسط وتضم بين غلافيها 55 قصيدة نثرية، وهي المجموعة الخامسة له منذ ان اصدر اولى مجموعاته عام 1996.
&&& مهّد الشاعر لمجموعته بقوله (واهمون.. اولئك الذين ينحنون ليستأثروا بالأعالي)، فيما وضع على الغلاف الاخير قصيدة& وجاء فيها: ( تلك الطيورُ، على الغصون، جراحُ، كم مرةٍ نزفتْ، على طبق المسا، أحلامها.. شَجَناً، وبعثرها صباحُ )
& في هذه المجموعة لا تكاد قصيدة منها تخلو من مفردات (الحب والنهر والطفولة) فهو يجد نفسه عند هذا الثالوث الذي له فيه ذكريات وحكايات ومسرات وخيبات ايضا، واحيانا يجمع الثلاثة معا في القصيدة، ومهما حاول ان يبتعد فهو يقترب اكثر& منها، فيترك نفسه هائمة بين هذه الاشياء حتى يكاد القاريء يشعر ان الشاعر يسكب كلماته دون ان يدري، اي انه مجرد ان يريد ان يكتب قصيدته حتى تطير الكلمات كالفراشات لتحط على الورق ومن ثم تلتصق لتكون كالوشم، انه لا يبذل جهدا في كتابة القصيدة، بل يغمض عينيه فتنساب بعفوية كأنه ينفثها :
(وحدتي..
&تمتليء بحبك
لهذا، اراها دائما تفيض بالقصائد )
لكن هذه العفوية تثير القاريء بقدر كبير من الدهشة، لان ترجيعات قلبه تتراكم فتتعالى صراخا مذهلا حينما يتأمل وجه الحاضر فيرى الاشياء التي مرّ بها عبر السنوات تتراءى له، هنالك كمية كبيرة من الذكريات تركض باتجاهه وهو يقف عند حافة المكان الذي عاشه زمنا ثم غادره لكن يرى كل شيء كأنه ابن اللحظة الا ظله الغائب& :
(كلما جئت قريتي
اقتادتني خطاي
الى طفل ما زال ينتظرني
خلف شجرة
منذ خمسين عام
لكنني لا اراه)
& علاقته بالنهر ذات وشائج قوية، لا ينفك ان يذكرها، فيتلو عليه محبته وفضله، ويعيده الى حياة بعيدة ترتبط بالطفولة التي تعانق النهر& وما حوله من اخضرار فتكون الاشجار حاضرة والحديقة والفراشات والموجات والقرية وتسمع صدى كل تلك الاشياء يزغرد في الصفحات، ينبع من اعماق بعيدة تمتد الى سنوات يجد الشاعر نفسه ازاءه يخوض في الماء ويتهجى حروف قطراته وجمل موجاته حتى انه لا يجد بدا :
&(وانا طفل
كان ابي يأخذني
الى النهر
فأغافله
كي اصطاد الموجات
وأضعها في جيبي
وحين نعود الى البيت
يفاجأ ابي
طفل..
يتكلم في لغة الماء).

وهذه الحكاية التي يرسمها الشاعر مع النهر الذي يتعلم لغته في طفولته يربطه بقلبه العاشق، يحاول ان يتطلع بعيني عاشق للنهر الى حبيبته فيحادثها بلغة الماء،لكنه في لحظة يتوقف ازاء تأملاته التي تتألق فيها كلمة (انا احبك) فيجد ان الشعر الذي لديه لا يكفي ليقول هذه الكلمة حتى وان وجد نفسه يتمرى في صباح ابتسامتها وحتى ان حاول ان يهيل عليها النسيان فهو يراها تشرق في قصائده، لكن.. ثمة حزن يشعره يتدفق من وخزة موجعة :
(كلما
تصفحت رسائلك القديمة
خفقت في مرايا دمي
شوكة
ورأيت الزمن
يتفتت مثل غيمة
بين اصابعي)

&& ولكن على الرغم من القصائد المرتبطة بالحب والنهر والطفولة التي ابدع الشاعر في هزّ& الحنين المعلق على اغصانها وأضاء سفرها الجميل في ذاته، فالمجموعة الشعرية لا تخلو من اغراض اخرى، يبدأها ببغداد التي يجد نفسه يتغنى بدجلتها ورصافتها وجسرها عيون المها وزهرة وجودها، ويمر على الشهيد /الصبي الذي احتضن شظايا الانفجار فلملمته يد الشمس واخذته اليها، عبورا الى صديقه القاص فرج ياسين (كنت تحسن الصمت،فينشق عن كفيك سرب الكلمات،وتتركني، اتخفى وراء ابتسامة هائمة وارجل بعيدا)،والى بلادده الشاحبة الحزينة، التي هي اليوم تمتد كجرح كبير يرقص عليه الاميركان ويغني له الاعراب) ويمر على (واهمون) يحلمون ولا نوافذ تدوّن احلامهم او جراح)، ويعبر الى دمشق التي يراها (افق حاني الهوى، واخضرار السنين) ويعود الى شارع المتنبي ليتأمله فيقول (في شارع المتنبي / لم ار، غير قصائدي، وحدها هي التي، تسير الى جانبي) لكنه يتوقف امام (المنتحلون) ليعلن شيئا من غضبه& على فرعون ونبوبلاناصر وجلجامش ويقول عنهم (انهم ليسوا الا سراق،& لمآثر الاخرين، الذين حملوا برؤوسهم الشموس، ومنتحلين بطولات من مشى بأقدامهم الزمن، انهم ليسوا الا صورة، والاخرون هم المعنى، وحينما لم يستطيعوا ان يمتلكوا الحياة، استأثرت اسماؤهم بالتاريخ).
&