لندن: بمناسبة الاستعدادات للاحتفال بمرور مائة عام على ميلاد الكاتب المسرحي الأميركي آرثر ميللر والذي يصادف في أكتوبر(تشرين الأول) القادم، يجري الآن عرض مسرحية آرثر ميللر «نظرة من فوق الجسر A View From The Bridge» على خشبة مسرح (Wyndham) اللندني، والعمل هو من إخراج البلجيكي Ivon Van Hove، المخرج الذي صنع اسمه عبر عروضه التجريبية المقتبسة
جّلها من ثيمات أفلام شهيرة لمخرجين أمثال بيرغمان وفيسكونتي وإنطونيوني وبازوليني وسواهم، ومحاولة تكييفها لمتطلبات خشبة المسرح، ولعل أبرز تلك العروض مشروعه المعنون (أنطونيوني) وهو تحديث مسرحي مبتكر لثلاثة أفلام للمخرج الإيطالي أنطونيوني، مستخدماً كاميرات حية وتقنية الشاشة الزرقاء لاظهار الممثلين على خلفيات متنوعة ومثيرة. أما مشروعه المميز فهو «مشاهد من الزواج» المقتبس من فيلم لبيرغمان يحمل نفس العنوان والذي تم عرضه في نيويورك ومن بعد على خشبة مسرح باربيكان اللندني في العام الماضي. أما الجديد في عمله (نظرة من فوق الجسر) لآرثر ميللر فهو تحرير النص من قيود واقعيته فضلاً عن تقويضه لتخوم الثيمة الميللرية نفسها لتتسع لدلالات وتأويلات أشمل، وهو عمله الأول لميللر كما أنه أيضاً عمله الأول مع ممثلين بريطانيين.

يعود تأريخ كتابة هذه المسرحية إلى عام 1956 ويرتبط بشكل وثيق بالفترة التي استدعي فيها آرثر ميللر في ذروة العهد المكارثي للإدلاء بشهادته أمام لجنة التحقيق بالنشاط غير الأميركي بشأن البوح بأسماء المثقفين التقدميين المتعاطفين مع الحزب الشيوعي الأميركي آنذاك. وقد واجه ميللر مثل بطل مسرحيته «إدي كاربوني» خياراً صعباً، إلا إنه خلاف لبطله الذي وشى بأبناء جلدته، رفض البوح واختار الصمت وفاءً لرفاقه وزملاء مهنته.
تجري الأحداث في أواسط خمسينات القرن الماضي إبان الفترة التي هرب الكثير من الإيطاليين من وطنهم الذي دمرته الحرب والفاشية آملين بمستقبل أفضل ينتظرهم في الولايات المتحدة الأمريكية.
لابد من التنويه هنا على أن إحدى ميزات هذا العرض هي جرأة المخرج في استغنائه عن التوجيهات والارشادات المسرحية الدقيقة للمؤلف (المعروف أن ملاحظات ميللر وارشاداته الموجهة إلى الممثلين والمخرجين كثيراً ما كانت مؤثرة وصارمة كما هي حواراته). أما الشيء الآخر فهو إقصاءه كل ما يتعلق بسينوغرافيا النص والاستعاضة عنه بخشبة مسرح رمادية جرداء يطوقها جدار منخفض مصنوع من مادة المقوّى توزعت على جهاته الأربعة مصاطب زجاجية طويلة تشكل ما يشبه حلبة ملاكمة فضلاً عن اكتفائه بأكسسوار شحيح هو عبارة عن كرسي خشبي وزوج أحذية ذي كعب عال وسيجار واحد فقط لا غير. الهدف من هذا التجريد وهذه الشحة كما يبدو هو تقويض إطار زمان ومكان الأحداث وجعلهما أكثر انفتاحاً ومعاصرة، فضلاً عن منحه الممثلين فسحة أوسع لاظهار طاقاتهم التعبيرية في حيز خالٍ.

***

يُفتتح العرض بشخصية الراوي الذي يلعب دوره محامي الجالية الإيطالي الأصل الفيري وهو يحدثنا عن الثيمة في سياقها التأريخي القديم قائلاً: «في صقلية، المكان الذي قدم منه هؤلاء المهاجرين لم يكن القانون بالنسبة لهم فكرة ودية منذ تعرضهم للضرب من قبل الإغريق» وينتقل بنا إلى التأريخ الأحدث ليحكي لنا عن المافيات وشبكات الجريمة المنظمة المتمثلة بآل كابوني الذين تعلموا مهنتهم القذرة
على أرصفة هذا الميناء. ثم يرتحل بنا عبر عنصر الضوء إلى الزمن الراهن ليسرد لنا بشاعرية صافية بيئة الساحل المنعزلة عزلة ساكنيها، هذه البقعة المنفتحة على البحر والتي تمنح الأحداث القادمة بُعداً كونياً وأسطورياً يسهم في تعميم الفكرة الضيقة للجالية لتتماهى بالمعايير التي تحكم العالم برمته. يخبرنا الراوي أن الحكاية التي يرويها لنا أبدية تنضح بمسار دموي عاجز هو كمحامي
عن إيقافه ويعّرفنا ببطلها إدي كاربوني، الذي يظهر وهو يستحم على المسرح بعد عودته من العمل، بأنه مهاجر صقلي قديم يعمل في تفريغ وشحن البضائع على رصيف ميناء بروكلين، يعيش وزوجته بياتريس التي هي الأخرى من أصل صقلي ومعهما الفتاة الشابة كاثرين التي تبناها خالها كاربوني منذ صغرها بعد وفاة والدتها.
التغيير الجذري الذي سيطرأ على هذه الأسرة يبدأ مع وصول المهاجرين الصقليين ماركو وشقيقه الأصغر رودولفو ودخولهما رصيف ميناء بروكلين بشكل غير قانوني واقامتهما في منزل إيدي كاربوني بسبب القرابة التي تربطهما بزوجته بياتريس. يسعى الشقيق ماركو إلى جمع مبلغ من المال ثم العودة ثانية إلى عائلته المتضورة جوعاً، في حين يفضل شقيقه الأصغر رودولفو الغناء على العمل فوق متن السفن ويحلم أن يحصل على الجنسية الأميركية. أما إدي كاربوني فيأخذ على عاتقه إيوائهما وحمايتهما والبحث لهما عن عمل على رصيف الميناء. يتصدى العرض في الواقع إلى ثلاث ثيمات ساخنة، الأولى، والأشد وضوحاً، هي موضوع الهجرة غير الشرعية، أما الثانية والأكثر غموضاً، فهي العلاقة الملتبسة لإيدي كاربوني بإبنة شقيقته كاثرين، وهي علاقة تتأرجح بين الافراط في الحماية الأبوية وشيء آخر مرّوع وملتبس ومثير للقلق تتكشف ملامحه بوصول هذين المهاجرين.
يبدأ التصدع في أركان هذه العائلة حين تنشأ علاقة حب مفاجئة بين رودولفو وكاثرين، هذه العلاقة التي ستثير قلق وغضب كاربوني وتُصبح بالنسبة له بمثابة تهديد وتضعه في الآخر أمام خيارين قاسيين، إما التخلي عن كاثرين للمهاجر الشاب، وهذا يعني فقدانه لها!. أو محاولة إعاقة هذه العلاقة عن طريق التخلص من الأخوين عبر الوشاية بهما إلى مكتب الهجرة. يكشف لنا سير العرض سرّين مبهمين في شخصية كاربوني. الأول، شغفه غير المشروع بإبنة شقيقته كاثرين والذي ينضح بالحب المحّرم أو ما يعرف بسفاح القربى. أما الثاني فهو موقفه من وجود المهاجرين في منزله. فهو من جانب غير قادر على إدراك مشاعره الخاصة نحو كاثرين أو البوح بها على الأقل، ومن جانب آخر ليس بإمكانه أن يغفر لنفسه الوشاية بالشقيقين المختبئين في منزله. حمايته المفرطة لكاثرين وعدم قدرته على الاقرار بحبه المكبوت لها هو من يسهم في كشف سره الأول الذي يفضي غريزياً إلى فضح سره الثاني وهو غيرته وغضبه غير المبّرر من رودولفو والذي سيدفعه إلى خيانة أبناء جلدته عبر الوشاية بالشقيقين إلى السلطات وهو الكشف الذي يكمل دائرة خرابه ويبرز إلى السطح ملامح الثيمة الثالثة وهي «الخيانة».
تتكشف هواجس كاربوني الغامضة نحو كاثرين شيئاً فشيئاً عبر إدراك الشخصيات الأخرى لها، ولعل زوجته بياتريس هي أولى الشخصيات التي عبرّت عن هذه الامكانية من خلال محادثتها مع كاثرين حين تقول لها: «هل تعتقدين أنني غيورة منكما يا عزيزتي؟». أو حين تكاشفه في ختام العرض بقولها:«إدي، إنك ترغب في شيء ما، لكن من الصعب جداً أن تناله!». أما الشخص الآخر الذي أدرك غرابة تلك الهواجس فهو المحامي الفيري وفي أول حديث له معه حين يقول له:«إدي، إن لديك حباً مفرطاً نحو إبنة أختك. هل تفهم ما أقوله لك؟».
تظهر ملامح الكشف عن سره الثاني في محادثته الأخرى مع الفيري حين يذهب لاستشارته بشأن أحقية رودولفو كمهاجر غير شرعي في طلب الزواج من كاثرين، متهماً إياه بالمثلية الجنسية، مؤكداً له أن هدف الزيجة هو الحصول على الجنسية الأميركية. ما يفعله الفيري هو تحذيره من علاقته بكاثرين والسماح لها بالزواج من رودولفو قائلاً:«حين يكون القانون خاطئاً فلأنه غير سوي، لكنه في حالة كاثرين ورودولفو القانون سوي. أما إذا أردت أن تقاوم مجرى النهر فستغرق يا إدي». واضح أن ثمة تلميح في هذه الجملة إلى أن مشاعر إدي نحو كاثرين هي مشاعر غير سوية. حين يخبره الفيري أن لا وجود لقانون يمنع مثل هذه الزيجة يلجأ كاربوني إلى مكتب الهجرة ويشي بالأخوين. يخبرنا الفيري قائلاً: «لقد كنت أتطلع في عينيه أكثر مما كنت أستمع إليه. إنني بالكاد أتذكر الحديث ولكن لن أنسى مطلقاً كيف أصبحت الغرفة مظلمة حين نظر إليّ، لقد كانت عيناه أشبه بنفقين».
كاربوني يدرك جيداً أن الوشاية بأبناء جلدته هي خيانة، إلا إنه مع ذلك لا يعترف بخطيئته هذه، بل يذهب إلى أبعد من ذلك في تحديه لماركو بالسكاكين وهو يصرخ بأعلى صوته: «أريد اسمي يا ماركو. لقد مسحتم بلاط الجالية باسمي هذا وكأنه خرقة قذرة. كلا، أنا إدي كاربوني يا ماركو..».
إن الخوف الأكبر الذي يهدد كاربوني في حقيقة الأمر هو ليس وجود ماركو ورودولفو أو خسارته اسمه وسط الجالية كما يزعم، إنما هو الكشف عن أسراره الذي هو بمثابة كشف عن هويته الحقيقية ووجوده. أما صرخته الختامية قبل موته: «أريد اسمي» فهي صرخة كابوسية مبحوحة وعقيمة مصدرها النرجسية والغطرسة وحب الهيمنة، وهي لا تعّبر عن استقامة أخلاقية بقدر ما هي تعكس إحباطه الذي يتعزز من خلال إدراكه المتأخر لخطيئته. والآن، هل نحن أمام خطيئة شبيهة بتلك التي ارتكبها أوديب بحق والدته والتي أدركها بعد فوات الأوان ففقأ عينيه عقاباً لذلك؟ كاربوني هو النموذج الأكثر شبهاً بأوديب، باستثناء رفضه الإقرار بخطيئته تلك حتى في لحظة الموت. يختتم الفيري العرض أخيراً قائلاً: «ينبغي أن أعترف لكم أنني حزين من أجله، ولكن بشيء من... الفزع. ومع ذلك، فمن الأفضل لنا قبول أنصاف الحلول، وهذا هو ما ينبغي أن يكون!». ويبدو أن وجهة نظر الراوي هذه تمثل وجهة نظر المؤلف.
إن عبقرية ميللر تكمن في قدرته على إضفاء الطابع الملحمي على المواضيع الشخصية، وهذه الدراما غير مستثناة من ذلك، فهي ليست مجرد مأساة عائلية لشخص ما اسمه كاربوني. إنما هي مأساة تتحدث إلينا مباشرة وتوحي لنا أن ثمة كاربوني في داخل كل واحد منا. لقد جسد الممثل (Mark Strong) التفكك الرهيب لشخصية كاربوني بألمه الفج ومشاعره الصماء وعنفه العاطفي والجسدي لبطل تراجيدي مثقل بالأخطاء المهلكة لحب محرّم سقيم. في هدوئه الحذر كان الممثل سترونك يكبت في أعماق هذه الشخصية حزمة موتورة من الشهوة والغضب والغيرة والكبرياء يصعب كبحها. حين يصف المحامي الفيري عيناه بأنهما أشبه بنفقين ينتابنا احساس بأن خلف عيون الممثل سيل من المشاعر المكبوتة، ونظرة تحدق بألف ميل من الخسارة والخوف والاضطراب.
الممثلة (Nicola Walker) لعبت بشكل مؤثر دور الزوجة المخلصة التي تكتم أحزانها الدفينة على مضض، أحزان هي مزيج من الشعور بالمهانة كزوجة وفي ذات الوقت الإحساس بالرثاء وهي ترقب الرجل الذي تحب وهو يحطم نفسه وعائلته ببطء. أداء نيكول يتناقض بشكل ملفت مع أداء سترونك، فهي تجسد دور الزوجة التي تتمزق بين حبها لكاثرين «الطفلة البريئة التي تتقافز مثل قرد بين أحضان خالها»، وبين غيرتها من كاثرين «المرأة التي تفتحت أنوثتها فجأة». دينامية الأخذ والعطاء في أداء الممثلة ووكر والممثل سترونك كانت عميقة موجزة ومكثفة تتنقل بشكل خاطف من الغضب إلى الشفقة، ومن الرضا إلى الرفض وبالعكس، وهذا ما أضفى على العرض ليونة ونضارة وتوتر. في حين جسدت الممثلة(Phoebe Fox) في أدائها لشخصية كاثرين الانعطافة الصعبة بين فترة المراهقة والنضوج وكذلك الإرباك المتزايد للطفلة التي تغدو امرأة وترغم على مواجهة الحقيقة حين تعي هوس خالها العنيف والمتقلب نحوها. فوكس قامت بأداء كل ذلك بمزيج من البراءة والفتنة والعفوية. يمكن القول، ووفقاً لرأي الكثير من النقاد والمهتمين البريطانيين بالشأن المسرحي، أن هذا العرض هو أحد العروض المميزة في لندن إن لم يكن هو أفضل
عرض مسرحي لعام 2015. فقد حاز على جائزة النقد الكبرى البريطانية كأفضل مخرج، كما نال الممثل Mark Strong جائزة أفضل ممثل عن دوره الرئيسي في العرض.