أبو العلاء المعرى عظيم بميزاته وخصائصه بل ما ذكْر من قصصٍ عديدةٍ عن شدة ذكائه وفرط ذاكرته وخصائصه هى أشبه بالخيال ثم أهميته وإبداعاته والجدل الكبير حوله وحول آرائه وكتبه وأفكاره وتمرده. استغرق فيه طه حسين وعباس العقاد وبنت الشاطئ وأمين الخولى وهادى العلوى وعبد الله العلايلى ولويس عوض ويوسف البديعى وعلى كنجيان ويوحنا قمير والحموى وابن العديم وغيرهم. كما كان اهتمام المستشرقين البالغ مثل نبكلسون ووليم واط وماركليوث وغولدزيهر وبوشه وأغناطيوس وكريمر وهيار وسلمون وأوخو وبروكلمان وماسنيون وبلاسيوس.. وسر اهتمامهم بالمعرى فقد ترجمت اللزوميات مثلا إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والروسية وغيرها.
لقد تشوق فى الرحيل إلى بغداد أيام كانت بغداد آنذاك مدينة العلم ومركز الحضارة وتلاقح الفكر وملتقى الأشراف والأدباء والمثقفين وقد إزدحم الناس من كل أطراف الدنيا وسميت (دار السلام) ...يصفها طه حسين (كانت بغداد كباريس اليوم فلاترى فى العالم الإسلامى شابا أتم الدرس فى بلده إلا وهو يتحرق شوقا إلى الرحلة إلى بغداد ودراسة العلم فيها من أصفى موارده وأعذب مناهله).عرضت على المعرى كتب بغداد من مدينة العلم وبيت الحكمة وكثير من خزائنها فكان كما قال ابن الفضل (جعل المعرى لايقرأ عليه كتاب إلا حفظ جميع ما يقرأ عليه). دخل المعرى النوادى والملتقييات حيث محاججاته الفكرية والأدبية والفلسفية فى بغداد لاسيما مع الشريف المرتضى نقيب الطالبيين التى أدت فيما أدت وغيرها كمرض أمه إلى هجرته بغداد وتسميه رهن المحبسين وهو يتحسر على بغداد طيلة حياته:
شربنا ماء دجلة خير ماء .. وزرنا أشرف الشجر النخيلا.

ثم كتاباته مثل سقط الزند واللزوميات ورسالة الغفران ومحاكاة الأخيرة الملحمة الشعرية (الكوميديا الإلهية) لدانتى الإيطالى و(الجنة الضائعة) لجون ميلتون الإنكليزى. وتبرز عندنا حكمه الكثيرة التى صارت مضربا للأمثال وما تميز به عن غيرهوشعره الجميل حيث نظم فى مختلف فنونه من الوصف والمديح والهجاء والغزل والنسيب والخمرة والرثاء والإفتخار ومنها: فى ديوانه سقط الزند الرثاء قصيدته الخالدة التى قال فيها طه حسين (نعتقد أن العرب لم ينظموا فى جاهليتهم وإسلامهم ولا فى بداوتهم وحضارتهم قصيدة تبلغ مبلغ هذه القصيدة فى حسن الرثاء):
غير مجد فى ملتى واعتقادى.. نوح باك ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعى إذا قيس.. بصوت البشير فى كل ناد
أبكت تلكم الحمامة أم غنت.. على فرع غصنها المياد
صاح هذى قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
إن حزنا فى ساعة الموت أضعاف سرور فى ساعة الميلاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
رب لحد قد صار لحدا مرارا ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين فى طويل الأزمان والآباد
تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب فى ازدياد
سر إن اسطعت فى الهواء رويدا لا اختيالا على رفات العباد
قبيح بنا وإن قدم العهد هوان الآباء والأجداد
وكذلك قرئت قصيدته فى الفخر من ديوانه سقط الزند ونظمها ببغداد أيضا
ولما رأيت الجهل فى الناس فاشيا تجاهلت حتى ظن أنى جاهل
فوا عجبا كم يدعى الفضل ناقص ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل
إذا وصف الطائى بالبخل مادر وعبر قسا بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت ضئيلة وقال الدجى للصبح لونك حائل
وطاولت الأرض السماء سفاهة وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدى إن دهرك هازل
وتم اختيار فقرات من كتب عربية وأخرى استشراقيه فى الموضوع
فضلا عن رسائله وأجوبته الكثيرة التى وصلته من الأمراء والزعماء والفقهاء والأدباء وأصحاب المذاهب والفرق والمقالات. كما كانت قصة وفاته لونا من التراجيديا التى ختمت حياته المليئة بالأحزان ولتحديه فى الخروج عن المألوف أدت إلى انقسام الناس والجدل الكبير حوله من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وقف على قبره أكثر من ثمانين شاعرا يرثيه منهم القائل:
العلم بعد أبى العلاء مضيع والأرض خالية الجوانب بلقع
ما كنت أعلم وهو يودع فى الثرى أن الثرى فيها الكواكب تودع
لو فاضت المهجات يوم وفاته نا استكثرت فيه فكيف الأدمع
رفض الحياة ومات قبل مماته متطوعا بأبرّ ما يتطوع
قصدتك طلاب العلوم ولا أدرى للعلم بابا بعد بابك يقرع

وما أروع قصيدة الكبير محمد مهدى الجواهرى فى ذكرى أبى العلاء وفيها:
قف بالمعرة وامسح خدها التربا واستوح من طوق الدنيا بما وهبا
لتكون مسك الختام استيحاءا من روح المعرى وفكره وأدبه وفلسفته وتمرده.

&