بغداد: صدرت للكاتبة العراقية رغد السهيل رواية جديدة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر& تحمل عنوان (احببت حمارا).& تقع الرواية، التي تتضمن 19 فصلا وخاتمة،في 280 صفحة من القطع المتوسط، افتتحتها بكلمة لفيرجينا وولف تقول فيها (مستقبل الرواية يعتمد على المدى الذي يمكن فيه تعليم الرجال على تحمل الخطاب الحر لدى النساء)، ومهدت لها بقصيدة سومرية تقول (واحسرتاه على ما اصاب لكش وكنوزها، ما اشد ما يعاني الاطفل من بؤس، اي مدينتي متى تستبدلين بوحشتك أنسا...) واوجزت على ضفاف الرواية ما تريد ا تحيط به القراء علما& عبر صفحتين ونصف، قبل الذهاب الى الرواية، وهي تؤكد في الاسطر الاولى ( احببت حمارا، هذا ما قلته للجنة التحقيقية، وما اكدته لهم في مشفى الاراض العقلية ايضا، وهو الحقيقة. لم اكذب لكن..!)، ومن تنطلق في سردها لما تريد الاحتجاج عليه او السخرية منه، فتأتي بدلالات وحكايات من الواقع بكل ما فيه من معاناة اجتماعية وصراعات سياسية وضغوطات اقتصادية وترسم لها تأثيراتها على الاخلاق العامة،من خلال الفتاة التي تبحث عن حمار تجد فيه صفات ومواصفات غير موجودة في المحيط الذي تعيش فيه، بعد اشارتها : (اما حمار المرحوم زكي فقد اختفى، لم يره احد بعد مقتل صاحبه، لكنني رأيته اكثر من مرة، واحببته بصدق، نعم احببت حمارا، واستغرقت وقتا حتى اعترف بهذا الحب لنفسي، بعدما وجدتني افكر فيه ليلا ونهارا، هل ثمة امر فيه منطق لتصنف انت الاشياء بمنطق خارج المنطق ؟ هل حقا انا هنا).
عنوان الرواية صادم كما يبدو، لاول وهلة، ومن المؤكد ان القاريء سيضع في باله ان ثمة فنتازيا في الموضوع وان عالما غرائبيا هو الموجود داخل الكتاب،وبالفعل.. فمنذ الوهلة الاولى تتفجر المفاجآت التي تحاول الكاتبة تقطيرها بحيث لا يشعر القاريء انه وقع في فخ هذه الفنتازيا، بل ان التاريخ الذي تذكره (عام 2006) والتي تؤرخ فيه مقتل بائع الخضار والفواكه زكي الذي اصابته ثلاث رصاصات بعد ان قطع الشارع،يعرفه الجميع، ثم اشارتها الواضحة في الصفحة ذاتها على لسان الحسناء (الخاتون) التي طرقت بابها يوما وهي تتحدث لها بوجع ومن ضمن ما قالته ( كل يصيح انا المركز، على القوم الدورانحولي، وكل صدّق دعواه وقدّم فتواه، دارت فتاواهم فوق رؤوسهم)، فضلا عن العديد من الدلالات التي تشير الى احباطات واوجاع ومصائب وبؤس وتراجيديا،والتي التقطتها الكاتبة بعناية ودقة من الواقع الذي يسود منذ سنوات طويلة، وكأن عملها كدكتورة في (الاحياء المجهرية) منحها هذه الدقة في البحث.
فالرواية..التي هي في حقيقتها روايتان، الاولى القصة الرئيسية الخاصة بالبحث عن الحمار فيما الثانية قصة (ام صابر ) و (ام مظلوم) ومن معهما، وهي حكايات من قاع المجتمع، ويأتي السرد نسيجا متداخلا ومحافظا على الكوميديا السوداء& السوداء الذي فيه، وقد وجدت الكاتبة اسلوب سرد الرواية الثانية من خلال ملف وجده البائع زكي قرب بسطة الخضار التي يعمل فيها متوهما انه يعود للدكتور امل بطل الرواية الاولى، فتضمن كل فصل الاولى على فصل من الرواية الثانية بعنوان (ورقة).
ولكن المثير ايضا ان نقرأ من أجواء الرواية ما ياتي: (..أي عطر وضعته مس بيلْ وهي تتجول في بغداد؟، وأي عطر انتشت به مس كلنتون وهي تنقب عن بذور الخراب الشامل؟، وأي عطر باعته احداهن فتلقت جرعات كهربائية؟، رحم التاريخ معمل لعطور الاناث، عطر نازك ما زال يثير فعولن وأخواتها..) وكذلك : (أعطني قبلةً يا كليوباترا) سترت أنطونيو من عار الهزيمة بعطر غريب، عطر هيباشيا& ما يزال في قلوب رجال الكنيسة في جريمة الاسكندرية، وعطر بنلوبي يغزو معامل النسيج العراقية، فتواصل النساء انتظارهن لعودة قائد آخر ليس بأوليسيس، وبطل زوسكين لم يغب يوماٍ عن بغداد، يمارس هوايته، لا يكل ولا يمل، يقتل ويخطف، ثم يذبح بتقنيات علمية عالية المهارة، لهدف استخلاص العطر الخفي في الجميلات، فيسلخ جلدهن، ويصفيه، يريد عطر المدن في الاناث نقيا من الشوائب..، العطر قضية جوهرية رسمت الطريق للسيد المبجل التاريخ..)، وهذا يعطي انطباعا ان الرواية فيها ما فيها من سخرية مرة واضحة يمكن شم رائحتها من خلال هذه الاجواء.
هذا العنوان وهذه الاجواء تدفع الى قراء الرواية بشيء من التأمل، قد يجدها القاريء طويلة، فليس من السهل قراءة 280 صفحة بشكل مستمر، لكنها بصراحة تجتذب القاريء الى ان لا يغفل عنها، لكنها تحتاج الى تأمل وقراءة متأنية، لا سيما ان الرواية منذ الوهلة الاولى مليئة بالغموض والاسرار وبالسخرية ايضا، وهو ما يدعو القاريء الى التمهل، لا سيما انها تسترسل وتذهب في الاسترسال كأن الكلمات هي التي تسحبها الى ان تقول ما تريده لكن الايقاع ممتع ينساب بسلاسة، والاجمل في صفحاتها الاولى تشرك القاريء في اجواء روايتها، تحادثه كأنها تعرف امام اي المفردات سيتوقف او ازاء اي العبارات، فتطلب منه حينا (ايها القاريء، توقف عن الضحك رجاء.. ) او تدعو للتركيز (ارجو ان تركز ايها القاريء، قلت لك شارع القادسية،فلم اسمعك تقول معركة القادسية) وهي هنا تستدرج نفسها للوجع حينما تؤكد (تلك معركة دفعنا تعويضاتها سابقا، واليوم لنا بطولات جديدة..)، وهذا ما يؤكد ان الرواية تتلك فجيعتها في كشف الخراب الذي يعيشه المجتمع من جراء الحروب والبطولات حيث الفوضى واللا وعي والجهل , وغياب الآمان والطمأنينة والسلام،وهؤلاء الابطال المتعددون في الرواية ابتداء من زكي بائع الخضار الذي اضطرت زوجته الى الزواج من اخيه لتتوخى& الدواء باهظ الثمن لاولاده المتخلفين عقلياً الا أنه رماهم في مشفى الأمراض العقلية فقتلته ,& الى& الرجل الذي اطلقت عليه اسم (بابا نويل) المصاب بانكسارات نفسية ادت الى تلف عقله والذي هو دائم التردد لخبر عن القوات المسلحة ( قامت قواتنا الجوية في الساعة (13) من هذا اليوم (22 ) ايلول (1980 ) بالتعرض للقواعد والمطارات العسكرية في عمق اراضي العدو والحقت أضراراً بالغة في الاهداف العسكرية أما وحداتنا الصاروخية / أرض- أرض / فقد حققت اصابات دقيقة , والحقت أضراراً فادحة بقواعد التموين الرئيسة... ثم انتحرت فتاة.. وليخسأ الخاسئون ) الى شخصية (شروق المصابة) بورم خبيث في الكبد وهويتدلى الى الامام فتضطر الى حمله& بيديها، وكذلك شخصية (لطيفة) التي فقدت ابنتها بسبب اصابتها بمرض خبيث وكذلك شخصية (هيلة) ودموع الصغيرتين اللائي يبيعهن (فاضل) ويقبض الثمن ليرميهن في بحر الرذيلة، وكذلك (ليلى) التي استأصلت بيت الرحم واخوها الذي غادر البلاد مهاجرا، و (ام صابر) التي كانت تبيع قناني الغاز وعندما سقطت على رجلها القناني قررت ان تترك بيع الغاز وتبيع لعب الاطفال , فضلا عن (الخاتون) التي تغرد كل حين مفتتحة جملتها بـ (ايتها العاشقة الفريدة) والتي تنتهي الرواية بتوقيع منها بعد ان تسمع الدكتورة (امل) بطلة الرواية خبر موت حمارها& الا انها تتفاجأ بأنه كاذب من خلال رسالة قصيرة : ( العزيزة دكتورة أمل.. قرأت روايتك ( أحببت حماراً ) أشكرك لنشرك للملف , لقد فقدته قبل الانتهاء منه , ولأني لا اجيد السرد كنت سأسلمه الى أية كاتبة لها غرفتها الخاصة , لم يخطر ببالي أنه سقط قرب بسطة خضار المرحوم زكي , وأزف لك بشرى حماره لم يمت ,رأيته بالامس يدور حول حديقة الأمة , عليك تقبل كل مفاجآت الحياة لا تستغربي شيئاً... ولك عميق شكري وتقديري.. الخاتون ).
&الرواية.. لا يمكن الاحاطة بكل ما فيها والاستمتاع بمضامينها وشخوصها دون قراءتها بتأن وتأمل،ومما يحسب للكاتبة ان ايقاعات الرواية لم تدع الملل يتسرب الى قلب القاريء بل يتشوق الى ان يقرأ.
الكاتبة رغد السهيل من مواليد بغداد،دكتوراه في علم المناعة / الاحياء المجهرية، نشرت العديد من القصص في الصحف العراقية والعربية، اصدرت مجموعتين قصصيتين هما : ضحكة الخاتون وسايكو بغداد، وهذه الرواية (احببت حمارا) روايتها الاولى.
&