بين لحظة وأخرى كنت أنتظر القول "في أمان الله" فكلنا راحلون من هذا الزمن وعن هذا الزمن يا أبا مي، هي سنة الحياة وقانونها الذي يرفض الجدل.
في أمان الله، فهي رحلة طالت أم قصرت، لكن المؤلم فيها عراقيا أنها رحلة قاسية ملأى بالنذالة، لذا وأنت المترفع دائما رفضت التوجع فيها فآليت الوجع مع نفسك حتى لا يشمت فيك الزمن. تعرف أنها مرحلة قاسية حين فضلت الإنزواء لأن الأضواء بات البرغش يتطاير حولها ويشغل الفراغ الذي تركته أنت ليس الآن بل منذ وقت طويل!
وأنا أنتظر دوري! كنت أنتظر دوري يوما في زقاق من أزقة الكريمات ونحن ننفذ فيلم الحارس من إخراجك، وأنت واقف بالقميص الأزرق ليس فقط ترسم مسار الكاميرا بل كنت ترسم مساري، وأنا أنتظر كيف ترسم مسار الكاميرا وكيف تحدد زاويتها كي أتعلم منك.
خليل .. أبا مي أبا فارس .. أنا الذي أردتك أن تكون مخرجا لفيلمي "الحارس" ولم أجد عنك بديلا ولم أكن أريد بديلا عنك. فأنت الشاطر والمعلم والذكي الموهوب في شبابك في أعوام الستينات. كنت أنا تلميذا وسأبقى تلميذا وكنت أنت معلما ورحلت معلما. وستبقى في ذاكرة الأجيال المثقفة والأجيال السينمائية معلما عظيما.
بعد أن تعلمت منك الكثير وغادرت الوطن إلى بيروت وهناك أكملت دروسي، عدت إلى بغداد لأنفذ فيلم الأهوار ومن بعده فيلم بيوت في ذلك الزقاق.
كان عندي مشهد حذفته السلطة من الفيلم. كان المشهد ليلا في الساعة الواحدة ليلا في ساحة التحرير وأمام نصب الحرية وكنت أصمم اللقطة فصعدت في الرافعة مع الكاميرا وحين توقفت الكاميرا في فضاء ساحة التحرير والساحة خالية من الناس سوى الممثلين شاهدت شخصا جاء من شارع السعدون ووقف قرب مكتبة المثنى وكنت أنت، فطلبت أنزال الكاميرا لأغادر الرافعة وذهبت نحوك وكنت متكئا على جدار المكتبة. ذهبت وقبلتك قائلا "هذا تلميذك الذي يدير المشهد. أنت معلمي وأستاذي" أتذكر أنك قلت لي "أتركني وحدي، وإذهب لتنفيذ المشهد"
خليل شوقي، ماذا بوسع المرء أن يقول في رحيلك .. الكلمات تفقد معناها، وكل شيء مؤلم وأكثر إيلاما سلوك الوطن بكل ما يحتوية من مكونات لم يعد لها معنى ولا قيمة. وإلا كيف ترحل أنت بدون ذلك الزخم المتوقع في ودعاك. سيودعك أهلك وأصدقاؤك ومحبيك في الغربة وأنا بينهم التلميذ الذي تعلم منك الحرفة والخلق الجميل والحب الذي صار إجلالا.
كنت ترفض الحديث عن تجربتك وحياتك .. والله معك حق ايها المعلم. والله معك حق.& وكلنا الذين نتحدث ونظهر على واجهة الشاشات لا حق لنا. فالكلمات وأنت تعرف فقدت معناها. ليس ثمة معنى للكلمات مهما صيغت ومهما كتبت ومهما دونت ونشرت .. لا معنى لها في معنى الموت والرحيل وفي معنى الغربة والنسيان. وفي معنى غربة المثقف وإغترابه!
يقول كل القادة المزيفيين، وتقول كل الأحزاب المتفائلة قسراً، ويقول كل المتفائلين إدعاء "وطني دائما على حق" كلا .. أنت دائما على حق يا خليل، وصمتك دائما على حق، ووحدتك دائما على حق، وغربتك دائما على حق. ماذا سيقول أهل العراق بحق مبدعهم الجميل .. هل من كلمات تقال، وهل من إعتذار يقال. هل أعتذر نيابة عنهم. لم يخولني احد أن أعتذر نيابة عنه. أعتذر أنا منك وعزائي الوحيد إني سرت خلفك في المسيرة الفنية فرحا، وها إني سوف أسير خلفك حزينا دامعا، فصبرني أنت في وداعك، وأربت على كتفي وأمسح دموع عيني. فليس غيرك من يحمل ذاك الحنين الجميل حتى في توحده وسفره في الطريق الموحش الأخير. سامحني فقط أني لم أغلق جفنيك. يصعب علي ذلك& .. في أمان الله.

تلميذك .. قاسم حول
&