ما أن انتهيت من قراءة رواية "الموريسكي الأخير" للروائي والشاعر صبحي موسى حتى وجدتني أرى أننا كلنا في هذا الزمن موريسكيون تائهون ضائعون، سلبت مقدراتنا ومصائرنا وثرواتنا وحرياتنا وكرامتنا وأرواحنا، لا ندري على أي ديانة نقيم وإلى أي حضارة ننتمي بعد أن شوهت الديانات والحضارات جميعها وفي مقدمتها الإسلام والحضارة الإسلامية، وصار الصراع بينها يصمها جميعا بالقتل والذبح والحرق والجنون، وما أشبه ما جرى في الأندلس وأدى إلى سقوطها المروع وما يجري اليوم، فقد قاتل المسلمون أنفسهم فأجهز عليهم مسيحيو الغرب بالتآمر تارة والدس بينهم تارة والمشاركة في قتلهم تارة أخرى حتى صاروا وحضارتهم أثر بعد عين.
نعيش في الرواية تاريخين متقاربين، تاريخ بداية سقوط الأندلس وتاريخ بداية سقوط نظام مصري، لكن التاريخ الأول كان من القوة بحيث سيطر على الرؤية العام، ليؤشر إلى أن الأمة كلها الآن تعيش تاريخ بداية سقوط الأندلس، فهي تقتتل من الداخل وتستعين بالغرب في قتالها البيني، والغرب يتآمر ويدس لها لإسقاطها كما فعل سابقا مع ملوك الطوائف في الأندلس، وما "العين الراعية" تلك التي تتدخل لتوجه وتحمي وتنقذ إلا وهم الزعيم الغائب الحاضر في العقل والوجدان العربيين.
إن مراد رفيق الموريسكي الذي يمتد نسبه إلى آل جهور ونعيش معه الزمن الراهن بين ثورة 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، ومحمد بن جهور الذي نعيش معه زمن سقوط الأندلس، كلاهما يحكي متاهة سقوط الأمة، وأن سقوطها يسير إلى الأمام غير عابئ بما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع من انقسام وتشتت وتلاشي، فالمجتمعات تعيش زيفا وتشوها ولصوصية وترد أخلاقي، فيما القادة يتصارعون على النفوذ والسلطة غير مبالين إلا بعروشهم وكراسيهم ومقيمين محاكم التفتيش على الضمائر، رافعين سيوف التكفير والعمالة والخيانة في وجه المعارضين.
يسير صبحي موسى بشخصيتيه الرئيسيتين جنبا إلى جنب، وعلى الرغم من اقترابهما في الدم والفن، إلا أن شخصية مراد تظل أضعف على مستوى المواجهة واتخاذ القرار وقوة التركيز والفعل، تائهة، ومسلوبة الإرادة، تعاني الهلاوس والتهيؤات، وكثيرا ما تشعرك أنها شخصية وهمية بكل ما يحيط بها من شخصيات كالجدة والطبيب وناريمان أو راشيل وضابط الأمن بل زمنها نفسه يبدو كزمن وهمي زائف، وعلى النقيض من ذلك نجد محمد بن جهور يمثل القوة والتحدي والمقاومة والتضحية والمغامرة والحقيقية، ذلك أننا لا نرى لثورتي "مراد" 25 يناير أو 30 يونيو كما نرى لثورات مسلمي الأندلس، نعم فشلت هذه الثورات جميعها في استرداد المقدرات والحريات والعدالة أو حتى الحفاظ على ما بقي، ذلك بسبب صراع القادة على السلطة والنفوذ، لكن على الأقل وجدنا في ثورات مسلمي الأندلس تضحية ومقاومة وإخلاصا من جانب الأهالي وبعض القادة.
يشكل "موسى" سيرة الموروسكيين من خلال سيرة آل جهور، حيث بادل فصول روايته بين مراد رفيق ومحمد بن جهور، فإذا كان الأخير يسرد مسيرة آل جهور منذ الأب عبد الله بن جهور الذي كان وزيرا لبني الأحمر وأحد أعلام السياسية في غرناطة وثورته التي قادها من البشرات وما جرى لعائلته وللموريسكيين القابضين على الاسلام، حتى وفاته في تونس، فإن مراد رفيق يستكمل من خلال حكايات جدته مسيرة أجداده من أبناء محمد.
وقد تمكن "موسى" ببراعة أن يضفر الوقائع والأزمنة المحكية والمعاشة، لنرى أن أوجه التشابه بين متاهة الماضي والحاضر واحدة، وأن لم الشمل الذي ظل الجد الأكبر بن جهور "العين الراعية" يطارد أبناءه من أجله، صابا جام غضبه على من يتجاهله أو يغفل عنه من أحفاده وحاميا وراعيا لمن يسعى إليه، ظل بين الواقع والحلم غير قابل للاكتمال، ذلك أن أسبابه لم تتوفر وحين تتوفر ينشب الخلاف والصراع والانقسام والشتات بين الأبناء. وهكذا كان الأمر في الزمن الحاضر فما بين 25 يناير و30 يونيو كان الصراع والانقسام والشتات، والنتيجة صعود جماعات الاسلام السياسي التي رفضها الشعب وأسقط حكمها لتتوالى الحرائق والتفجيرات، وتتوه الثورة ويضيع صناعها.
ضاع الماضي ممثلا في سقوط الأندلس، وأصبح مجرد التفكير في استردادها ضربا من الوهم والجنون، والآن يرفض مراد عمادة الموريسكيين ويعود من هلاوسه إلى شقته ليكتشف اختفاء جدته وخادمتها وبيع البيت الكبير واختفاء الموريسكيين في الأرض، ليضيع الحاضر ويبقى المستقبل ـ "مؤتمر الموريسكيين" ـ معلقا بيد هؤلاء الذين كانوا ولا يزالون سببا رئيسيا في نكبات الماضي.
لقد نجح صبحي موسى في تقديم رواية كاشفة، مزج في بنيانها بين وقائع الماضي والحاضر، ووازن في سرده ولغته ليتدفق حكي الماضي بنفس قوة وسلاسة سرد ولغة الحاضر المعاش، لم يضغط على الحاضر في الأحداث بل ترك الماضي يحمل عنه الممارسات الإجرامية والانتهاكات البشعة التي ارتكبت ضد الموريسكين.&
إن "الموريسكي الأخير" تحذير للحاضر والمستقبل من مصير الماضي، ولعلها جاء في وقتها لتدق ناقوس الخطر في أمة، أمة تتحول بفعل فتنها الداخلية وتسلط الخارج المتربص بها إلى أمة من الموريسكيين مهددة بالزوال.
&