ترجمة وإعداد سيدني: غونتر غراس، الشاهد غير المريح للقرن العشرين، ومؤلف رواية "طبل الصفيح"، توفي يوم الأحد الماضي في مستشفى بمدينة لوبيك، حيث كان يقيم.
ولد الكاتب الألماني الراحل قبل 87 عاماً في داتسينغ (بولندا)، وحصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1999، عن مجموعة أعمال عكس فيها ذكرياته غير المريحة عن قرنٍ من الحروب، والتي شارك في واحدة منها، هي الحرب العالمية الثانية بصفة مساعد في سلاح الطيران الألماني.&&

آخر لقاء مع غونتر غراس

ننشر هنا أهم ما جاء في أحدث لقاء كانت أجرته صحيفة "الباييس" الإسبانية مع الكاتب الألماني الحائز على جائزة نوبل، في منزله بمدينة لوبيك، يوم 21 مارس / آذار الماضي.كان غونتر غراس على وشك إصدار كتاب شعري، ورسومات، وقصص. إلتقينا به لآخر مرة في منزله في لوبيك، برفقة زوجته، أوت. كان غراس حينها في حاجة إلى إستخدام جهاز تنفسٍ إصطناعي، كان مرحاً ومسروراً، قلقاً إزاء أحوال العالم، وعودة الشر إلى الأماكن التي تحلّق بالذاكرة إلى العصور الوسطى، وعلى قناعة من أنه فقط الإتحاد الأوروبي، وإحترام الدول الأخرى، يمكن أن يرفع من معنويات إنسانية القرن العشرين، الذي كان الكاتب قد صوّره كئيباً في روايته المشهورة "مئويتي" 1999.

- كإنسان، ما الذي تتيحه لك عملية كتابة الشعر اليومية؟
-أول كتاب ظهر لي في أعوام الخمسينات، وكان عبارة عن ديوان شعري مزوّد برسومات. وفي وقتٍ متأخر شرعت في كتابة رواية "طبل الصفيح". في ذلك الوقت كنت أدرس النحت في برلين. كنت أكتب رواية ما، وعندما أنتهي منها، أنتقل إلى وسيلة أخرى. كنت في تلك الفترة أكتب الشعر، لأنني إنتبهت حينها إلى أن تجسيد شخصيتي ضمن نماذج مختلفة في الروايات كان يبعدني عن نفسي. أردت أن أعود إلى ذاتي.

- وكنت ترسم.
- عندما كنت أرسم لوقتٍ طويل، كنت أضطر للعودة إلى الكتابة، والشعر، أحاول العودة للقاء نفسي، وكذلك البحث عن المكان الذي كنت فيه، لأن كل نشاطاتي السابقة كانت تبعدني عن نفسي.

- عندما تعود إلى ذاتك.. ماذا ترى؟
- إضطررت في أعوام الخمسينات والستينات لإرتداء النظارات وكتبت قصيدة بعنوان "الآن لا توجد هوّة مع النظارات".. وفيها أقول أن كل شئ في غاية الدقة لكن منحرف، وأن النجاسة يمكن رؤيتها بكل وضوح. وعلى مر السنين أدركت أيضاً مسار الشيخوخة، وأن هناك مواد في الجسم يصيبها الإنهاك، ويجب مراجعة إحدى ورش الإصلاح. ولدي أيضاً الوعي بأن كل شئ زائل.

- هل كان هذا الإنطباع لديك دائماً؟
- سريعاً ما توضحت الأمور بالنسبة لي، لأنه فلسفياً لم أكن تحت تأثير هيدجر، بل كامو. ما معناه، إننا نعيش ولدينا فرص تغيير حياتنا. ولقد أدركت، على مدى سنوات، أن لدينا إمكانية لتدمير ذاتنا، الأمر الذي لم يكن موجوداً من قبل، وقيل أن التدمير يحدث جراء المجاعة، والجفاف، أي أن المسؤولية كانت تقع على جهاتٍ أخرى. إنها المرة الأولى التي نتحمل فيها المسؤولية، لدينا الإمكانية والقدرة على تدمير أنفسنا، ولا نفعل شيئاً للقضاء على هذا الخطر الذي يهدد العالم. وإلى جانب البؤس الإجتماعي الذي ينتشر في كل مكان، الآن نعاني من مشكلة تغيّر المناخ، الذي لا نزال نجهل حتى الآن نتائجه. وأن هناك إجتماع تلو إجتماع، ولكن المشكلة لا تزال قائمة، حيث لم يتم عمل أي شئ إزاء ذلك.

- والمشاكل آخذة في الإزدياد.
- ويجب أن نضيف إلى ذلك مشكلة التضخم السكاني. كل ذلك معاً، يجعلني أدرك أن كل شئ في طريقه إلى النهاية، وليس هناك زمن محدد. إذا أدركنا وقت وجود كوكبنا، ليس علينا فقط إلاّ الإعتراف بأننا مجرد ضيوف، ولدينا وقت محدد جداً في هذا العالم، وأن الشئ الوحيد الذي سنخلفه وراءنا هو النفايات الذرية. وإذا، في يومٍ ما، كان هناك من يريد أن يعرف ما الذي فعلناه أوما يميّزنا، سوف لن يرى غير النفايات الذرية. في سنوات السبعينات والثمانينات كتبت روايتين ملحميتين، هما "التخبط" 1977، و"الفأرة" 1986، وأتحدث فيهما عن قدرة الإنسان على التدمير الذاتي.

- إنسانياً، ماذا يعني العمل بالنسبة لك؟
- لابد أنك قرأت كتبي وتعرف، مثلما أروي في مذكراتي "تقشير البصل"، أنني إستطعت البقاء على قيد الحياة بمحض صدفة، ففي مدة ثلاثة أو أربعة أسابيع، خلال الحرب، كان هناك خمسة أو ستة إحتمالات لأن أموت حالي حال أغلب من كان في نفس عمري. أن حقيقة العمل بقدر الإمكان يعينني على أن أختبر نفسي بأنني لا أزال على قيد الحياة، وبأنني موجود، ولا أزال أعيش، وأنا& حي أرزق.

- هل لعبت طفولتك، في وقتٍ لاحق، دوراً في تطوير أعمالك الأدبية؟
- في كتاب مذكراتي "تقشير البصل"، هناك فقراتٍ أتحدث فيها عن أمي. كانت أمي توفيت بسبب مرض السرطان وعمرها 75 عاماً. رأيت والداي وشقيقتي بعد إنتهاء الحرب بعامين. كانوا قد طردوا أمي من دانزيغ، وعندما رأيتها كانت مرهقة جداً وعجوز. في طفولتي، كنت أروي لها الكثير من القصص التي تتفتق عنها مخيلتي، ومخيلة الأطفال خصبة جداً، إعتادت أن تقول: "أكاذيب الأطفال". لكن، في أعماقها كانت تحب الأكاذيب. كنت دائماً أقول لها عندما أكبر وأملك مالاً سوف آخذك إلى بلاد العجائب وكل تلك الأشياء...، لكن لأنها ماتت مبكراً، لم أستطع أن أثبت لها أبداً أنني كنت صادقاً في كلامي. أبداً، لم أستطع أن أقدم لها شيئاً ... وقد تألمت عندما أخبرتها أنني أرغب في أن أكون فناناً، وكان والدي ضدّ ذلك تماماً، وكانت تقف إلى جانبي دوماً. أنا لا أزال أتألم لأنني لم أستطع أن أحقق ما كنت وعدتها به. أنني أعاني من عقدة واضحة بسبب ذلك، لم أراجع قط طبيباً نفسانياً وأنها مصدر كل إبداعاتي.&&
&