ضمن سلسلة كتاب الهلال صدر هذا الأسبوع للكاتب الفلسطيني سلامة كيلة كتاب جديد عنوانه "زمن الثورة.. الأزمات والفرضيات الأولى" سعى فيه المؤلف الذي نشر نحو 40 كتابا لاستكمال تحليل المشهد العربي المرتبك بعد أكثر من أربع سنوات على الحراك الشعبي في العالم العربي، وسقوط أنظمة مستبدة، ومحاولة أنظمة أخرى للاستمرار، في استهانة بالغضب الشعبي وتوالي أرقام الضحايا، حيث الشعب مجرد "أرقام" لا بشر لهم أسماء وذكريات ومحبون.
وبعد النشوة التي رافقت انتصار بعض الثورات العربية ساد وجوم، حيث لم تحقق الثورات أيا من أحلام الشعب الذي ثار وهو يعرف مطالبه المباشرة، وشارك في الثورة لأنه يريد تحقيق هذه المطالب. ما جرى تغيير "في الشكل" دون المضمون، تغير اسم الحاكم، وظلت الأوضاع التي فرضت التهميش والفقر والبطالة وانهيار التعليم وتراجع الاهتمام بالصحة العامة. وقد أدى ذلك إلى ردود فعل متعددة.. من الانكفاء والإقرار بالفشل، إلى اليأس والاقتناع بأن شيئا لم يتحقق، إلى الاندفاع نحو الفهم ومعرفة الأسباب التي جعلت ثورات كبيرة لا تقود إلى تغيير عميق.
كل ذلك فرض متابعة المشكلات التي رافقت صيرورة الثورات العربية، منذ خلع زين العابدين بن علي في تونس في يناير 2011، وتلمس أسباب العجز عن تحقيق التغيير المنشود، ومتابعة ردود الأفعال التي واجهت الثورات.. ردود فعل الطبقة المسيطرة، والدول الإقليمية والدول الإمبريالية. وبالتالي تحوّل الحراك الشعبي إلى صراعات وتدخلات عالمية، وميل عميق لإجهاض الثورات وتدميرها، وإطفاء نيرانها لكي لا تتوسع أكثر بعد أن امتدت من تونس ومصر إلى اليمن والبحرين وليبيا وسوريا، وطالت دولاً أخرى، ليظهر أن احتقاناً هائلاً يسكن العالم العربي. في عالم يعاني من أزمة رأسمالية عميقة، وحلول تدفع حتى شعوب المراكز إلى الهامشية نتيجة سياسة التقشف.
ويرى المؤلف أن "الربيع" صار "خريفا" بسرعة لا مثيل لها، أو هكذا بدا الأمر، وتعمم في الإعلام، وتردد على ألسنة "النخب" والأحزاب الكهلة. فعادت الأمور أكثر سوداوية وإحباطا، والأفق ظهر مسدودا، حتى قال البعض إن ما جرى لم يكن ثورة بل "مؤامرة"، وإن كل ثورة هذه "الدهماء" لم يكن بفعلها الذاتي نتيجة أزماتها، بل بفعل "الروموت كونترول" الإمبريالي. ورغم مرور أكثر من أربع سنوات، فما زلنا نعيش "لحظة الارتداد" والتي تبدو كذلك فقط، هكذا تظهر فحسب. هي لحظة الندب والعويل، والخوف من الأصولي والرعب من التغيير، ومن ثم القبول بعودة "الاستقرار"، الاستقرار فقط. فقد مُسِخت الأحلام، وتطايرت الأوهام، وظهرت حدود الواقع التي لم يرد هؤلاء وعيها.
&الكتاب يحاول أن يواجه هذه الموجة من اليأس، وسوء الفهم، والتخبط، ليقول إن ما جرى مفتتح مسار ثوري، قد يطول وقد يقصر، لكنه مستمر. ولقد كان مفتتحاً فقط لأن عفوية الشعب بالغة القوة التي ظهرت فيها لم تلاقِ من القوى من يستطيع تحديد مسارها، ووضعها في سياق يفرض "إسقاط النظام" بمعناه الاقتصادي السياسي. لهذا لم تفعل العفوية سوى إضعاف النظم، وفرض تغيير فيها، النظم التي حاولت المناورة من أجل الاستمرار فقدّمت تنازلات شكلية. وما يجعل هذا المسار يطول أو يقصر، بالتالي، هو معالجة النقص الذي ظهر في الثورات منذ البدء، حيث كانت ثورات شعبية عفوية بكل معنى الكلمة. فشباب الفئات الوسطى والفقيرة، هو من حاول أن يديرها، لكن دون أن يكون قد امتلك وعيا سياسيا وفكريا، أو رؤية للبديل الضروري، أو مقدرة على تنظيم الحشود لكي تفرض انتصارها. لا شك، فقد كان ذلك نتيجة استبداد طويل، وتدمير قصديّ للتعليم والثقافة، وأزمة اقتصادية أتت بالبطالة والفقر والتهميش، دفعت الشباب إلى الانكفاء الذاتي، والهرب من مواجهة واقعهم هذا إلى سياقات تنفي السياسية.
وفي رأي سلامة كيلة أن الإسلاميين لا ينجحون في الحكم، نتيجة أن برنامجهم الاقتصادي، ورؤيتهم الديمقراطية سوف يفرضان استمرار صراع الطبقات الشعبية ضد كل حكومة جديدة، وضد كل حزب لا يحمل حلا لمشكلات هذه الطبقات. بالتالي فقد دخلنا في مرحلة عدم استقرار على صعيد النظم، مع استمرار حركات الاحتجاج بمستويات مختلفة. وهو ما ظهر واضحا في مصر، حيث انتهى حكم الإخوان بثورة شعبية، وفي تونس حيث تراجعت حركة النهضة بعدما شهدت ما جرى في مصر.
ويقول: الآن وقد سقط حكم الإخوان المسلمين بزحف مليوني لم يحصل ضد حسني مبارك، ماذا سيقول هذا وذاك؟
تبيّن أن المسألة أبسط من أن تخيف أو أن يجري التعلّق بها. وأن الأمر كان زوغان نظر ليس أكثر. فالشعب الذي أتى بالإخوان لم ينتظر السنوات الأربع التي يحددها الدستور لكي يغيّرهم، بل زحف إلى الشوارع لكي يسقطهم. الملايين التي ملأت الشوارع كانت تحمل غلا لم يظهر ضد حسني مبارك، وهذا ما يحتاج إلى تفسير، حيث أن الشعب الذي ملأ الشوارع ليس ملحدا ولا علمانيا بل متدينا في غالبيته. مصر التي يتسم الشعب فيها بالميل إلى التدين، وهذا ما كان يخيف العلمانيين واليساريين، حيث اعتقدوا بأن سطوة الإسلام السياسي سوف تركب على تدين الشعب، وأن خطاب الإخوان المسلمين سوف يكون حاسماً في استقطاب ملايين المصريين.
باختصار، عن الثورة والكتاب، فإنه "لا أحد يراهن على الاستقرار قبل تحقيق مطالب الشعب، أو يراهن على توقف الثورة بعد أن تفجرت قبل أن يحقق الشعب مطالبه. تمرّد الشعب ليس حالة عابرة، ولا هو سياق عادي، أو حركة يمكن أن تحدث في أي وقت. إنما هو لحظة، لكنها تفرض تحقيق التغيير بالضرورة، بغض النظر عن الزمن الذي يمكن أن يتحقق فيه ذلك، لكن الواضح هو أن الثورة مستمرة إلى أن تتحقق مطالب الشعب... الأساس الذي فرض الثورات هو الذي لن يسمح بانطفائها، بل بتحقيق مطالبها. ولا يظن أحد أنه يمكن اللعب على الشعب، وتمرير الوضع دون تغيير حقيقي، فإما التغيير الحقيقي أو الثورة من جديد".
&&& والمؤلف سلامة كيلة الذي ولد في مدينة بيرزيت في فلسطين سنة 1955، خرج للدراسة الجامعية سنة 1973 ولم يعد يستطيع العودة إلى فلسطين، لأنه أصبح مطلوبا للدولة الصهيونية.
&