بغداد: على الرغم من ان اغلب الجمهور خرج من قاعة العرض المسرحي (بقعة زيت) وقد التبست عليه رسالته الا ان نقطة الضوء الواضحة فيها ان هناك من يريد ان يحرق المكان الذي نعيش عليه.
& عرضت، على مدى يومين، على خشبة المسرح الوطني ببغداد مسرحية (بقعة الزيت) وهي من نوع (المونودراما) من انتاج الفرقة الوطنية للتمثيل، تأليف محمود ابو العباس واعداد واخراج الدكتور عبد الرحمن التميمي وسينوغرافيا سهيل البياتي وموسيقى محمد الربيعي وتمثيل الفنان محمد هاشم الذي استطاع على مدى 33 دقيقة ان يستقطب انتباه وانظار الجمهور الكبير ويحافظ على طاقته في الحركة والصوت والتناغم وسط الحدث المسرحي، فيما اجتهد المخرج في توضيح رسالة عرضه التي تحذر من ان هناك من يريد حرق المكان.
& الا ان العرض المسرحي لم يخل من انتقادات طالت فكرته بالدرجة الاولى التي لم تصل الى اغلب الجمهور وكانت مغرقة في الكلام العام الذي لا يستند الى حدث معين، كما ان العرض اختتم بقول مجسد العمل (اجعلوني كفنا مقابل فرقتكم وغربتكم عني او اقتلوني ان كان بموتي تستقيم الحياة) قبل ان يتحول كفنه الى راية بيضاء، لكنه ترك النهاية غامضة وتنضح تساؤلا عماذا يمثل هذا الشخص الذي قال هذا الكلام، كأخر كلام، قبل اسدال الستار بقليل!!.

كفن كبير وراية استسلام&
& يبدأ العرض بظلام ترافقه موسيقى صاخبة وصراخ عويل مرعب، حيث يتركز العرض افتراضيا على بقعة منحدرة منزلقة، تؤطرها اشلاء ملابس كثيرة مبعثرة تمثل اجساد الضحايا (قتلى اصابتهم رصاصات في القلب والرأس)، وتؤكد حجم الموت ورائحته (تشبع جسمي برائحة الموت ولم امت)، ومنها يشير الى بقعة الزيت التي لوثت الماء.
& ومع العويل والصخب، يظهر من اخر الخشبة ضوء سرعان ما يكبر وتبدو منه كتلة بشرية غير واضح الملامح يغلفها قماش ابيض،تتقدم بخطوات وئيدة بعصاها الطويلة، وسرعان ما يصرخ بالاصوات (اخرسي ايتها الاصوات، انطفيء ايها الالم، اهدئي يا جراح) واذا انها لا تتوقف، يتعالى صراخه (.. توقفي.. توقفي.. توقفي)، وحين تختفي الاصوات يقول (ان صوتي بقبضته الرخوة يحكم السيطرة على الالم والجراح والذكريات (يضحك بصوت عال وبطريقة متقطعة ) ليس لي سوى هذه المساحة الممتلئة بالوساوس/ ملايين السنين تعشش هنا في رأسي ولا شيء سوى الهوس والاضطراب والجنون والارتفاع بقامتي الى علو لا يخلو من المخاطر ) قبل ان يكشف عن قماشة (دمية) كبيرة كان يحملها على ظهره (تمثل الام والاخت والوطن ايضا) كما قال المخرج، كان يناديها بـ (نورستي)، اذ ان الحكاية الواضحة هنا ان هذا الشخص يعيش ذكريات امه واخته المفقودتين حيث يخاطب كل واحدة منهما على انفراد،ويشرع في تفاصيل تنتهي عن قوله (بقعة الزيت لطخت وجه الماء) التي تتضح باشتعال كشافان ضوئيان على جانبيها وقد تحولت الى مقدمة الية عسكرية مدرعة،فيما تحولت القماشة / العباءة في اخر مشهد الى كفن كبير وراية استسلام كبيرة يلوح بها!!

احمد شرجي: هناك اشكالية في خطاب العرض
& وقد استطلعت (ايلاف) اراء عدد من المهتمين بالشأن المسرحي عن هذا العرض:
&فقد اثنى الفنان احمد شرجي على الممثل محمد هاشم لكنه اشار الى اشاكلية في العرض، وقال: ما يحسب لهذا العمل المونودرامي هم عمل الممثل، فقد سيطر محمد هاشم بشكل كبير على المتفرج وكان ايقاعه منضبطا وهذا ما يحسب للمخرج، فعلى الرغم من حجم قاعة المسرح الكبيرة الا انني احسست ان العرض اكبر من مونودراما، وقد حبس انفاس المتفرجين لمدة 35 دقيقة، وهذا يجعلنا نؤكد ان هناك ممثلا منمكنا استطاع ان يوفر طاقته على زمن العرض وهناك مخرجا ادار الممثل بشكل ممتاز، فضلا عن وجود علامات بصرية بثتها منظومة السينوغرافيا، ولكن للاسف ان الكثير منها لن يتم تفعيله وبقيت مجرد ايقونات ثابتة داخل العرض. واضاف: هناك اشكالية في خطاب العرض، وهناك ضعف في معالجة الموضوع، ثم ان رسالة العرض كانت مشوشة، فهناك مجموعة ارساليات،فليست كل مجموعة افكار تصلح ان تكون عرضا مسرحيا، فيجب ان تكون هناك وحدة موضوع، ولا بد ان تكون فسحة امل داخل السرد الحكائي للعمل.&وتابع: انا اشكل على العرض استخدامه موسيقى عالمية لانها لا تتوافق مع منظومة العرض البيئية.

جبار محيبس: اشتغلت في حالة المتوقع
& اما المخرج المسرحي جبار محيبس، فقد اكد ان المسرحية لم تمسه كثيرا،وقال: هناك محاولة جادة للفنان عبد الرحمن التميمي، الاستاذ في معهد الفنون الجميلة، لتقديم مسرح معبر وحقيقي، ولكن انا ارى ان النص دار في منطقة وزمن لا نعرف تحديدهما بالضبط.
&واضاف: باستثناء الكلمة التي تكررت كلازمة في العرض المسرحي (بقعة زيت لوثت وجه الماء) لم نر عرضا مسرحيا مبهرا ومثيرا وتعبيريا ورمزيا، بل كان عرضا ذا ايقاع واحد وصورة مكررة ولم يأت بجديد، وأرى هنا خطورة المسرح.
وتابع: لا اعرف لماذا اصر المخرج على ان يقدم المسرحية مونودراما وان كانت مكتوبة كمونودراما، ولكن كان عليه ان يتدخل ويضيف وينقلنا الى آفاق ابعد، الا ان النص كان احادي البعد.
وأوضح: لم تمسنا المسرحية كثيرا ويمكن ان نقول عنها انها مسرحية (فلات) قدمت مشهدا طويلا مكررا بإيقاع واحد، فلم يكن العرض بمستوى طموحنا على مستوى المخرج والمؤلف وان تألق فيها الممثل محمد هاشم، وان اغلب الاشياء التي وضعت على خشبة المسرح لم تشتغل باستثناء بعض الوهج الضوئية التي رأيناها في ثلاث او اربع نقلات، وبالتالي يمكن ان نقول عنها انها واقعية ونمطية اشتغلت في حالة المتوقع ولم تكشف لنا عن مناطق واسعة كان يتحملها هذا النص.

سعدعزيز: لم تصل رسالة العرض
&اما الفنان والناقد المسرحي سعد صاحب عزيز فقد تساءل: من يخاطب هذا العرض؟ وهناك اكثر من بقعة زيت في شواطيء وانهر بلادنا وليست واحدة.
وقال: غلى الخطاب المسرحي ان يخاطب الناس بشكل مقصود، وعلى الصعيد الفكري يجب ان تكون هناك رسالة احتجاجية واضحة، لا ان تلف وتدور في فلك لا نعرف اين يحط مرساه، على العرض المسرحي ان يوجه يوصلتنا نحو بنية احتجاجية وبنية فيها رفض عال للذي يحصل من سفك للدماء.
واضاف: المونودراما فن خطير، وليس من السهل القيام عليه بشكل يسير، انه فن صعب مركب ومعقد والممثل لوحده على خشبة المسرح.
&وتابع: لم تصل رسالة العرض وكان عليها ان تكون مباشرة وواضحة، فقد انتهى زمن الترميز والتشفير، ولا بد من رسالة صريحة ومباشرة، واعتقد ان الرسالة كانت متوارية، ولسنا بحاجة اليها، نحن نحتاج الى شيء صادم ورافض واحتجاجي.

مخرج العمل: تنبؤات لما سيحدث
الى ذلك اوضح مخرج المسرحية الدكتور عبد الرحمن التميمي ما جاء في العمل قائلا: حاولنا ان نعالج من خلال نص (بقعة زيت) هموم شخصية ليست لها ملامح، عائدة من عمق التاريخ تناقش مسألة الحروب المتتالية في هذه البقعة التي اصبحت فيها الحروب المتتالية لعنة، فكل من يأتي يبحث عن حرب، وان لم توجد مقومات حرب فهناك من يفتعلها لتقوم الحرب ويدخل الوطن في الدهاليز يوميا.
& واضاف: بقعة زيت هي الاشياء التي دخلت العراق تحت كل المسميات، الارهاب الاعمى او داعش او كل ما يسيء للمواطن العراقي والارض العراقية، وهذه بقعة الزيت بدأت تلوث الاشياء على المستوى الفكري والاخلاقي والاجتماعي، وحاولنا ان نقدم شيئا هو: كيف يمكننا ان نعالج هذه البقعة مرورا بما حدث بعد البقعة، صورنا المجازر التي حدثت والقتل في الشوارع المختلفة وما تسعى اليه اميركا ايضا.
& وتابع: لم تكن المسرحية مباشرة، بل انني خشيت من مباشرتها لانها كانت واضحة المعالم حسب اعتقادي، وانا احترم اراء الجميع، لكنها لم تكن مغرقة بالرمزية لان الشخصية واضحة وتتحدث عن الموت في الشارع اليساري واليميني وفي العمق، كانت المسرحية تتجول في العديد من المناطق تكشف عن مقابر جماعية الى ان تنتهي بالشخصية في الاخير على دكة الموتى،فهي تشبه مقولة (ان لم يستقم دين محمد الا بقتلي فيا سيوف خذيني)، ونحن نقول دائما ان الموت اذا ما كان يحيي وطننا فأهلا به ولكن اذا بقينا نموت ويظل الوطن مريضا فلا بد من اعادة النظر في كل ما يجري.
& وأوضح: الموسيقى.. قضية امزجة، ولا يمكن حصرها، فالمسرحية لم تكن محلية بحيث نختار لها موسيقى محلية، فهذه قابلة للاختيار، فقد كانت محاولة ان اعرض بيئة عراقية باطار محلي برؤية عالمية، فمن الممكن ان نقدمها في لندن او باريس او اي مكان اخر، اما عن اللغة فقد تكون اللهجة العامية الاقرب ولكن المسرحية مكتوبة بالفصحى واضفنا بعض الكلمات العامية التي هي من وجعنا اليومي، وانا اعتقد في بعض المناطق ما كان ممكنا استخدام غير الفصحى لان السرحية تحتاج الة لغة نثرية ليحلق بها الممثل وليحلق العرض ايضا.
وختم بالقول: المسرحية لم تكن نصا مسرحيا أو إخراجا أو تمثيلا وتقانات، بل كانت هما حقيقيا يصور الأحداث بلباس محلي وبمنظور عالمي البيئة المحلية مقابل عالمية الفضاء المفتوح على كل الاحتمالات، وكان الخطاب الواضح :” انتبهوا أيها السادة إنهم يحرقون المكان…” وهذه تنبؤات لما سيحدث من كوارث إن لم نلحق ما تبقى من حياة.

&