&
تدور أحداث رواية "سيد مساف" للكاتب والروائي الشاب محمد صلاح زكريا، في الفترة التي تلت اندلاع ثورة 25 يناير أو ما يسميه البعض الفترة الانتقالية الأولى "فترة حكم المجلس العسكري"، لتطرح أسئلتها الذكية حول حلم شاب مصري بسيط بين ذروة الأمل في تحقيق أحلامة والإمساك بها وبين دركات اليأس وإدراك أن حلمة ليس سهل المنال ولا سريع التحقق كما كان يظن في أيام الثورة الأولى التي تلت تخلي مبارك عن السلطة.
تتساءل الرواية الصادرة في 114 صفحة عن مكتبة الدار العربية للكتاب الشقيقة الصغرى للدار المصرية اللبنانية: هل جاءت الثورة بالأمل أم بالإحباط؟ هل أثر ذلك الحدث الكبير ـ الثورة ـ فى فكر الشباب وتطلعاتهم مما جعلهم يتراجعون عن فكرة السفر والهجرة أم ماذا؟.. وتحاول أن تبحث عن إجابة من خلال تجسيد فني لإيجابيات وسلبيات المرحلة الانتقالية التى تلت الثورة.
وما بين البحث عن حلم السفر للخارج والبحث عن تغيير حقيقي يحيا في ظله الباحثون عن وطن طال غيابه، تبدو هي المسافة ذاتها بين الراوي "محمود شاب مصري يعمل أخصائيًّا نفسيًّا" وبين صديقه وزميل دراسته "سيد" "الذي لا يبدوا سيدًا ولا حرًا على الإطلاق" فـ "سيد" هنا ليس سيدًا لشيء أو على شيء، بل سكنه القلق منذ البداية، واستمر بداخله هاجس الرحيل، وتشكل أمام عينيه أن الحلم و الخلاص هناك فى البلاد البعيدة، حيث يضطرم باطن الأرض بالنفط وتنعكس الشمس على الرمال الملتهبة ؛فهل سينجح فى تحقيق ما يصبوا إليه أم يظل حائرًا؟.
صوت الراوى: صديق سيد، يمثل المرآة التي تعكس صورة الصديق، لكنها لا تطابقة تمامًا. عبر هذا التوتر الدرامي تبزغ متعة السرد، وتصبح الرحلة في تلافيفها وسيلة وغاية والجميع يسأل: "أي رحلة أشد وطأة؟! سفري هذا أم عودتي لأصبح مسافرًا جديدًا.. أحمل الغربة بين خطاي كمن يحمل عطرًا خلابًا لا يتحمل رائحته.. يراه الجميع وطنًا وأراه أنا العذاب.. أي غربة تستحق كل هذا الألم؟!"..
تجسد الرواية الفائزة في مسابقة الإدارة المركزية للهيئة العامة لقصور الثقافة في 2013، عبر سرد حر، وبلغةٍ فصحى رصينة تجنح في مواضع عديدة إلى آفاق الشعر والمجاز حالة القلق والشتات الروحي النفسي الذي أصاب كثيرًا من المصريين، خاصة ضمن الفئات المنتسبة إلى الشرائح الوسطى من المجتمع، ويسعى الروائي إلى رد هذه الحالة التي تفاقمت وتضخمت إلى جذورها الاجتماعية وأسبابها السياسية إلى ما قبل 2011، وتراعياتها التي أكدت عدم زوال هذه الأسباب رغم قيام ثورة رفعت شعارات "عيش حرية عدالة اجتماعية"، لكنها لم تجد صداها على الأرض ولم تزد الباحثين عنها والمنادين بها إلا بؤسًا على بؤس وألمًا على ألم وإحباطًا لا يبدو في الأفق ما يشير إلى خفوته أو تبدده.
تقدم الرواية التي يستهلها المؤلف بعبارة دالة "إلى من زرعوا الأمل على ضفاف حياتي" تشريحًا إنسانيًّا لفئة المعلمين في المجتمع المصري، وتسعى إلى كشف خبايا وتفاصيل التكوين النفسي والاجتماعي وجذورها السياسية والاقتصادية من خلال نموذجين؛ "الراوي" وشخصية "سيد" اللذين نشآ وتعلما في عصر مبارك، وعانيا مثل الآلاف من ضيق ذات اليد والوعي، واضطرا مثل غيرهما إلى الانخراط في سلك وظائف التعليم، هذا القطاع الذي يعاني شأنه شأن بقية القطاعات الأخرى من الترهل وتردي أحوال المعلم وإهدار حقوقه، فكان الحلم/ الحل/ الخروج من المأزق والأزمة هو البحث عن فرصة سفر في بلد نفطي، لعل ذلك يكون "طوق النجاة" من الحصار الخانق والواقع الجاثم على النفوس ولا يبدو له نهاية.
حتى الثورة التي قامت وأنعشت الآمال بالتغيير، بدا أنها غير قادرة على حلحلة الأوضاع؛ فجذور الفساد ضاربة ومتشعبة بعمقها في الزمان والمكان، و"المعاناة مستمرة ولا يدري أحد متى ستنتهي".. هكذا يجسد الكاتب عبر شخوصه وسرده ولغته البديعة تعايش حلم الشاب المصرى ما بين حلم "الثورة" وتغيير الأوضاع والسفر إلى الخارج والاكتفاء بالسعي إلى البحث عن فرصة عمل مناسبة والعيش بقية العمر في هدوء وسلام.
وتبدو مجازية الرحلة في السفر بالقطار، حيث يلتقي الراوي بصديقه القديم "سيد"، موازية لرحلة الإنسان المصري، أو بالأحرى الشاب المصري الباحث عن ذاته، الحالم بغد أفضل لا يأتي أبدًا، والذي تبدو حياته كسلسلة لا تنتهي من الآمال والآلام والأحلام التي لا ترى أبدًا عين الواقع ولا شيئًا منه. ورغم أن الراوي "محمود" أحد شخوص الرواية الرئيسيين، ومن خلاله نتعرف على الحكاية وهو الذي يقوم بسرد التفاصيل واسترجاع الوقائع عبر آلية "التداعي" وتقنية "الاسترجاع" أو "الفلاش باك" فإن شخصية صديقه "سيد" تبدو هي الأكثر حضورًا وبروزًا في الرواية كلها.
فمن خلال "استرجاع" الراوي واستعادته لتفاصيل وظروف العلاقة التي نشأت بينه وبين "سيد" سنعرف أن "سيد" شاب بسيط نشأ في الريف لأبوين طيبين لا يبدو أنه قانع ومستكين وراض بحياته، وعيه يقوده إلى التذمر والرفض والاحتجاج، يتبلور هذا الرفض والتذمر في ملاحقة حلم السفر الذي لا يأتي أبدًا، بات البحث عن السفر "سفرًا" موازيًا، رحلة لا تصل أبدًا إلى مرفأ ولا تستقر على شاطئ.
وتقارب الرواية بحس إنساني مرهف، وبشعور تختلط فيه المرارة بالألم باليأس نماذج الشبّان الذين اختلفت ظروفهم وتفاوتت معاناتهم وتراوحت أحلامهم؛ ما بين متحمّس لاستكمال طريق الثورة للوصول إلى أهدافها المعلنة في العدالة الاجتماعية، ومابين محبط يرى في الثورة مطيّة استغلها الفاسدون فزاد انتشار الفساد في ظلّ الفوضى التي لا تترك مجالًا للمحاسبة، فشاع استغلال ذوي النفوذ - سواء بسوء معاملتهم - لمن يعمل لديهم من العمال كما هي حال سيّد، أو بتأمين عقود عمل بخسة في وزارة التربية مقابل مبالغ مالية ترهق من يحتاج للعمل ولكن يضطر للدفع أمام ضغط الحاجة، إلى غيرها من صور المعاناة التي أحاطت بها الرواية من خلال الشخصيات الثانوية فيها.

"سيد مسافر" رواية تنخرط بكليتها في الهم الاجتماعي المعاصر، تسعى إلى مقاربة المشهد وتحليل الأوضاع السياسية والاجتماعية بحس متعاطف، يضغط على مكامن الوجع ويشير إلى البثور التي أفرزت موادها المتقيحة، دون صراخ أو عويل أو نبرة زاعقة، استندت إلى رصيد من الخيال والتصوير وخبرة سابقة في الكتابة الأدبية، رواية تستحق أن تقرأ وأن تثير التأمل و"السفر" في خيال كاتبها وخيال شخوصها معًا.
مؤلف الرواية، محمد صلاح زكريا، يعمل أخصائيًّا نفسيًّا، وهو قاص وروائي شاب صدر له من قبل ثلاث مجموعات قصصية؛ "إنسان في زمن النسيان" 2005، و"سبحة وكاس" 2012، و"بسمة على شفاه الموت" التي حازت جائزة المجلس الأعلى للثقافة. كما صدرت له روايتان: الأولى "الضائع بين يدي" 2011، والثانية: "سلوى" 2013، وفازت روايته هذه "سيد مسافر" في المسابقة المركزية للهيئة العامة لقصور الثقافة.

&