المواجع تخبو ولا تزول.لا شيء يغادرك. فالوطن يبقى ظلك أينما ارتحلت، ويطل وجه أمك التي غادرتها من سنين في وسط الزحام، وقهر أرهق قواك في وطنك لن يتلاشى مهما أمعنت في السفر والارتحال. وحبيبة منحتها قلبك فغادرت ذات مساء دون وداع، لن يبرح طيفها خيالك حتى لو راودتك أجمل النساء. وقمح زرعته ورعيته حتى نضج، فأحرقه عود كبريت رماه عابر سبيل مستهتر ذات صيف، سيتراءى لك كلما أشعلت نارا لصنع فنجان من القهوة. والسجين يخرج من السجن، لكن السجن لا يخرج منه ويبقى في عقله وقلبه ويكبل خطاه وأحلامه، وعندما تتذكر موقفا مؤلما، تحس بنفس الألم الذي مررت به لبرهة، وإذا تذكرت موقفا مؤلما لولدك في طفولته، تحس جرحا قديما في القلب قد انفتح. واذا تذكرت دموع أمك ذات يوم بعيد، فلا بد أن تدمع عيناك.وإذا تذكرت طموحك الذي فشل، فلا بد أن يعود إليك الشعور بقهر الحياة.
حتى لو كنت تبدو قويا وشديد البأس، فقد تنجح في إخفائها عن الناس، لكنها لن تخرج من كيانك أبدا. لا شيء يزول، كل الأحداث والخيبات والمظالم تختبئ في حنايا القلب ولفائف الدماغ، وحين يُسمع إيقاع شبيه بها، تخرج جميعها تصرخ في المسامع والمشاعر والجوانح والجوارح. تخال أنها ذهبت لكنها تعشش في رأسك وقلبك وتفعل فعل المعاول هدما، لأنها تفقدك الثقة بالناس وبالنفس وبالقدر، كلا، لا يوجد يقين أحمق، يزين لك القحط ويبعث في النفس الآمال الزائفة، ويعلل قبح الحياة وشراستها بأنها خبرات تعطيك المزيد من القوة.
وهكذا، أنت لست ما تكون وأين تكون وكيف تكون الآن، بل أنت حاصل الجمع والطرح والضرب والقسمة التي مررت بها منذ أتيت لهذه الحياة. ماذا لو أصبحت قادرا على تتبع جميع الأحداث التي مررت بها ورأيتها أمامك كما ترى شجرة بجميع تفاصيلها؟ ترى أي أجزائها سيبرز أكثر ويسيطر على المشهد؟ هل هو الفرح الأكبر أم الجرح الأعمق؟ هل يحسب حاصل المشاعر بمعادلات حسابية أم متتاليات هندسية؟ كلا، إن الفرح لا يلغي الأسى كما يلغي الموجب السالب، فالأمر أكثر تعقيدا، لأن الفرح والأسى نوعان مختلفان في الشدة والنوع، لذا لا يمكن إخضاعهما للحساب. وعلى جميع الأحوال، فلا يمكن مقارنة شدة الهدم مع قوة البناء، فهذا الجسد الذي تعشقون وتجملون، يذوي كما الوردة على رمل الصحراء إذا أصابته جرثومة بصمت وخفاء.