في عام 1921 مثُلت مارغريت اندرسون وجين هيب محررتا مجلة ليتل ريفيو الاميركية أمام ثلاثة قضاة في قاعة محكمة غصت بالحاضرين في مانهاتن لمواجهة تهمة عقوبتها السجن مدة عام لانتهاكهما قانون مكافحة البذاءة والفحش في ولاية نيويورك بعد نشرهما مقتطفاً من رواية جيمس جويس القادمة "يوليسيس".
ويصور المقتطف موضع الاتهام شابة اسمها غيرتي ماكدويل تلحظ ان البطل ليوبولد بلوم يراقبها جالسة فوق صخرة على شاطئ البحر. وعلى خلفية فرقعات الألعاب النارية تنحني غيرتي الى الوراء شيئا فشيئا لتكشف عن ملابسها الداخلية فيما يستمني بطلنا ليوبولد على المشهد. لم ينتبه أحد اثناء المحاكمة الى هذا الجزء الأخير من المشهد بسبب التقطيعات التي أجراها عزرا باوند دون تخويل من أحد، واسلوب جويس التجريبي. ودمدم احد القضاة متذمرا بالقول "يبدو لي النص وكأنه هذيان عقل مختل، ولا أرى لماذا يريد أي أحد ان ينشره". ورأى قاض آخر ان محررتي المجلة نشرتا المقتطف لأنهما لم تفهماه. وأعلن القضاة ان المقتطف نص فاحش، وفي حين ان المحررتين اندرسون وهيب أفلتتا بغرامة فقط فان الحكم كان يعني منع رواية يوليسيس في نيويورك وربما في الولايات المتحدة قبل ان ينجزها جويس. ولم تتخلف السلطات البريطانية كثيرا عن نظيرتها الاميركية. إذ نُشرت يوليسيس في باريس عام 1922 وعندما ضُبطت نسخة في مطار لندن وأُحيلت الى القضاء أعلن مدير مكتب الادعاء العام السير ارتشيبولد بودكن ان منولوج مولي بلوم هو نتاج "وساخة وبذاءة منفلتة". وصودرت مئات من نسخ الرواية ثم أُحرقت لدى دخولها بريطانيا والولايات المتحدة. وكان الرقيب منذ القرن التاسع عشر يعتبر نفسه وصياً على النظام المدني مع بزوغ عصر المعلومات. وكانت القراءة والكتابة أداة خطيرة بيد كل من يمكن ان يستخدمها لأغراض لا تعترف بقيود. ولهذا السبب اعلنت بريطانيا والولايات المتحدة ان البذاءة "مادة تفسد كل ذي عقل مفتوح على مثل هذه التأثيرات اللااخلاقية"
في عام 1925 اكتشف المسؤولون البريطانيون ان استاذا شابا في جامعة كامبردج يخطط لتدريس يوليسيس لطلابه من الجنسين. وخلص المسؤولون الى ان الخطة "خبر كاذب" أو ان الاستاذ "مخبول خطير". وكان المخبول اف. آر. ليفيز الذي اصبح من أكبر النقاد البليطانيين. وبأمر من وزارة الداخلية راحت الشرطة تتجسس على ليفيز وتحذر متاجر بيع الكتب من بيع رواية جويس. وهدد السير ارتشيبولد بملاحقة الجامعة جنائيا وطالبها بالغاء المحاضرات التي تتعلق برواية يوليسيس. وفي عام 1933 منعت بي بي سي برنامجا اذاعيا حتى من ذكر عنوان الرواية على الهواء.
وإذا بدا رد الفعل هذا مغاليا في تزمته فيجب ان نتذكر ان يوليسيس كات عملا أدبيا راديكاليا في حين ان مجموعة جويس من القصص القصيرة "اهل دبلن" لم تُنشر إلا في عام 1914، بعد مرور تسع سنوات على كتابتها رُفضت خلالها ثماني مرات.
وكان القراء الأشد حاجة الى الحماية من يوليسيس الجيل الناشئ من الشابات، الطالبات الجامعيات والشابات من أمثال محررتي مجلة "ليتل ريفيو" الاميركية، اللواتي كن على ما يُفترض مهددات بالتأثر بنساء الرواية الماجنات والفاحشات، غيرتي وبيلا ومولي. ومما له مغزاه ان التهم الجنائية التي وجهت الى محررتي مجلة ليتل ريفيو بدأت عندما شكا رجل أعمال للمسؤولين بعد ارسال نسخة من المجلة التي نُشر فيها مقتطف من الرواية الى ابنته المراهقة.
افترض الرقيب ان شخصيات نسائية روائية مثل غيرتي ماكدويل يغررن بالنساء للسير في طريق التحلل اللااخلاقي الذي يقود الى خراب البيوت والعائلات بل وحتى تدمير الأمم. واعلن جون سامنر رئيس جمعية مكافحة المنكر في نيويورك الذي قادة الملاحقة القانونية ضد مجلة ليتل ريفيو في عام 1921 ان "نسويات راديكاليات يؤلفن كتباً خبيثة تُقرأ على نطاق واسع عن حرية المرأة الحديثة ويطالبن بمزيد من الحرية الجنسية".
ولكن خطر يوليسيس الحقيقي لم يكن الجنس بل السهولة التي اصبحت معها أشكال "فساده" الجنسي قضايا اجتماعية وسياسية. فان استكشاف المتعة الجنسية خارج اطار الزوجية يمكن ان يؤدي الى اثارة اسئلة عن الحكمة من الزواج والزواج الأحادي نفسه، الأمر الذي فتح الباب للتشكيك في كل اليقينيات التي لم تُخضع للتمحيص، بما فيها القومية والرأسمالية والدين. ورأى نقاد ان يوليسيس ليس رواية بذيئة فاحشة فحسب بل "بلشفية أدبية" وعمل "فوضوي بالكامل". وبحسب تعبير احد هؤلاء النقاد فان جويس كان "رجلا يحمل قنبلة يريد ان ينسف بها ما تبقى من اوروبا".
والأنكى من ذلك ان جويس كان ايرلنديا، من بلد حامت حوله الشكوك بسبب موقفه خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، أو ان الحكومة الاميركية اعلنت ان مجلة ليتل ريفيو مطبوع ذو "ميول فوضوية" ـ كانت اندرسون وهيب يجاهران بتأييدهما الناشطة ايما غولدمان ـ أو ان مجلة "ايغويست" الأدبية التي نشرت اجزاء من الرواية على حلقات في بريطانيا تأسست على يد الناشطة من أجل حق المرأة في التصويت دورا ماردسن التي سُجنت عدة مرات بسبب احتجاجاتها القوية، أو ان ستيفن ديدالوس يصر في يوليسيس على "قتل القس والملك" اللذين يسكنان رأسه، أو ان احدى الحلقات التي نُشرت من الرواية ومر عليها مقص الرقيب شبَّهت الملكة فكتوريا بكلبة منتفخة البطن بسبب الغازات. كانت جماليات جويس كمواقفه السياسية. وحين بدأ يعتبر نفسه فوضويا في عام 1907 كان ذلك يعني نظرته الى العالم من القاعدة الى القمة بوصفه نظاماً معقداً يحكمه منبوذون وحثالات وليس آلهة ودولا. وكان جويس رفع الخاص فوق العام، والجزئية الإشراقية ـ التجلي بالمعنى الديني ـ فوق التجريد والفرد فوق الأمم والجماعات. وفي يوليسيس تتحول هذه الرؤية الجزيئية الى ملحمة حديثة، تنتشل العالم من دبلن القذرة، والانسانية من حفنة افراد، وفصول طويلة من التاريخ من يوم واحد عادي هو 16 حزيران/يونيو 1904. ويلاحظ الكاتب كيفن برمنغهام ان عشاق جويس يحبون ان يحتفوا بهذا التاريخ كيوم عطلة ولكن يوم بلوم قد يكون أي يوم. وإذا أكلت اليوم سندويشا من جبنة غورغونزولا الايطالية فانك تحيي ذكرى قوة العادي في يوليسيس.&
&
&