&


رنّ جرس الهاتف، إنّها عاملة الاستقبال: "أستاذ الساعة صارت 7 ونصف".
في بيروت ينام هانئًا، يحلم بحبيبته أقرب إليه من الواقع حتّى، تداعب الطفل فيه حينًا، وتتجلّى بكامل الأنوثة الكامنة فيها أحيانًا.
في الحلم تراقصه، يغّنيان معًا: "صيري إنت الجماهير والفئات الشعبية تاكتبلك غنيّة" ويعقّب هو بأسف اتّجاه محبوبته: "إنت الجماهير، بس شو منعمل بالفئات الشعبية؟!"، هو البيروتي اليساري حتى النخاع، كان قد تركها مرغمًا.
&
حان وقت الوداع، ما زالت هناك زجاجة بيرة بالكحول في الثلاجة يفضّلها في يوم كهذا على قهوة الصباح. يحتسيها ببطء، قطرةً قطرة.
&بدأت نسبة الكحول الطفيفة تلامس كريات الدم، فتثير قشعريرة خفيفة في حبال الخيال. راح يراها أمامه غجرية تختال وترقص له رقصة الوداع مبتعدةً شيئًا فشيئًا، وهو يلاحقها، يدور في الغرفة وراءها يحاول الإمساك بها، فتتشنّج عضلات يديه.

إنه موعد المغادرة، موظف خدمة الغرف يضع الحقائب في بهو الفندق، حيث ينتظر سائق الأجرة ليقلّه إلى المطار.
في التحديث الأخير، الذي كتبه على فايسبوك، بطريقه إلى المطار، خاطب سامي الممثِّل والشاعر البيروتي حبيبته، لم تبدُ ماكرةً بنظره رغم أنّها عاهدته مودِّعةً أن تعبث مع عشاق آخرين... إلا أنّه آثر أن يوهم نفسه بأنّها لن تقوى على فراقه.
عندما راحت الطائرة تعلو شيئًا فشيئًا بدت بعيدة، حاول الإمساك بالغجرية من جديد.. راح يهمس: "حبيبتي، جديني في كل عاشق إلى أن أعود، استحضري نظرتي الخائفة تلك، كلما التقت عيونكما، وفي نظراتكما الأخيرة قبل الوداع.. لا تهتمي.. هذه ليست خيانة.. إنّها التجذّر في الإخلاص أن تبحثي عني في عيون كل العابرين".
كانت الرحلة في الطائرة كذاك الحدّ الفاصل بين التلفزيون والمسرح، فسامي الممثّل يلعب أدوارًا تلفزيونية تؤمن له المعيشة والانتشار، إلا أنّه يعشق الخشبة وتخنقه أطر العدسة، إذ تشلّ حريته في تحريك الدور كما يشاء.

كندا
في كندا راح يبحث عنها في كلّ النساء، هو أصلًا يهوى الامرأة الشرقية، عاشر هذه وغازل تلك.. وفي كل مرة كان يشعر بالبعد أكثر عنها فيعود إلى منزله باكيًا، يحتضن زوجته اللبنانية الكندية ويقول: "سامحيني حبيبتي"، الأمر الذي كان يثير استنكار وحفيظة زوجته التي لطالما طالبته بتفسير . بعد أن تتالت الحادثة أكثر من مرة، أصرّت الزوجة على أن يزورا طبيبًا نفسيًا متخصصًا في العلاقات الزوجية. تمامًا كمن تمّ تنويمه مغناطسيًا، اعترف بكل شيء أمام الطبيب وبحضور زوجته التي لم تستطع تجاوز الصدمة.
خيّرته بينها وأولادهما الكنديين وبين نسائه الشرقيات، كان كمن يشق الروح نصفين ليفاضل بينهما، شعر بأن مسًّا ما قد يصيبه إن ابتعد أو أُبعِد عن عائلته، أحسّ أن شعورًا كبيرًا بالذنب يتّقد في داخله اتّجاه أولاده وزوجته، إلا أن الحنين المستقرّ لم يفارقه.
في اليوم التالي، حاول المزج بين الاثنين، اصطحب زوجته إلى مطعم لبناني، وتاليًا أعدّ لها مفاجأة رومانسية، أهداها خلالها حقيبة طرِّزت عليها كلمة بيروت كان قد احضرها في زيارته الأخيرة. غضبت، رمتها بوجهه.. بألم شديد جلس القرفصاء وأخذها، تأملّ بها بضع لحظات ووضعها على الطاولة الصغيرة.
نهض نحو زوجته، احتضنها بقوّة وكأنّه يعتصر الدماء في عروقها، كانت عظامهما تلامس بعضها البعض، شعر بعمق اتصاله بــــإيفا، أمطر وجهها وجسدها بقبل مفعمة بالاشتياق، مارسا الحبّ بالحميمية نفسها التي جمعتهما في المرة الأولى؛ وغطّ كلاهما في نوم عميق.
في الصباح، أفاق متأخرًا، كانت إيفا قد ذهبت إلى العمل والأطفال في المدرسة، جلس يفكر في ما حدث، شعر بأنه لم يكن مع إيفا التي عرفها وتزوجها بيروتية أكثر منها كندية، بل بعد تنكّره لحبيبته ضاجع كندا للمرة الأولى.. خانها معها للمرة الأولى.. وتراءى أمامه المشهد نفسه، الراقصة الغجرية تختال في الغرفة، إلا أنّها لا تتنقّل داخلها، بل تتجه إلى الخلف، نحو الباب شيئًا فشيئًا وتختفي.
شهور مرت ولم تفلح نصائح الطبيب في اقتلاعه من هذه الحالة. فلم يكن أمامه سوى أن يتوخى الدقة في تعامله مع زوجته كي لا يجرحها. باتت علاقتهما محسوبة ومشوبة بالحذر.
هو فعلًا يحب زوجته، لكن لاوعيه الأحمق متمسك بفكرة الغجرية التي مرّن نفسه على أن يسقطها على إيفا في كل جلسة حميمة، فيغلق عينيه ويتخيلها سمراء بعيني حبيبته السوداوين المتسعتين.

بعد حوالي الستة أشهر، اتصل به مخرج لبناني لأداء دور البطولة في مسرحية، كان ساميلا يزال يعمل في التمثيل بين لبنان وكندا بعد أن أصرّت زوجته على المغادرة عقب أحداث 7 أيار.

استقلّ الطائرة على متن الشغف وجناح الشوق، كالعادة، طلب فطورًا شرقيًا وراح يستمع لأغاني فيروز. فور وصوله إلى مطار بيروت، ركب سيارة أجرة لتقلّه إلى الفندق، لكنّه بدّل وجهته فجأة وطلب من السائق أن يقلّه إلى الروشة.
وقف على شاطئ البحر، رمى حصوة في مياهه، كالمصلوب تسمّر لبضعة دقائق، ليصرخ بأعلى صوته: يا ستّ الدنيا كفّي عن العبث بي، حبّك مدمّر، وكرهك تحطيم للذات، لتاريخها وذكرياتها..
بحقّ السماء كفّي عن لعبة القدر القذرة تلك.. بيروت: إما أن تكوني أو ألا تكوني.
---
انتهى العرض الأخير من المسرحية.. أدار ظهره لها، تلك التي لم تستطع أن تكون لألف سبب وسبب.. واشترى لإيفا حقيبة شانيل هذه المرة.