صدر عن دار عارف للمطبوعات، للكاتب والناقد العراقي حسين السگاف رواية "كوبنهاغن .. مثلث الموت"، الطبعة الأولى 2015 في 351 صفحة من القطع المتوسط.
لقد تركتُ القراءة بالعموم منذ عشر سنواتٍ تقريباً، ولم أستطع أن أكمل كتاباً حتى نهايته في هذه الفترة، ولعلةٍ ربما كانت بي. لكن، وبعد أن أهداني صديقي الروائي حسين السگاف روايته الأخيرة، شرعتُ بقلب الغلاف والتفحص بالسطور التي تقابلني، ومن لحظة الإهداء المميزة حيث يسرد الكاتب فيها تعريف الوطن إلى " نشوان الزيادي " أُسرت وصرت أقلب الصفحة تلو الأخرى حتى أنهيت في جلسة واحدة أكثر من 130 صفحة، ثم أكملتها بذات النهار.
"تذكر أن الوطن شعارٌ أجوف حين يتلفظه غيرك من البشر، مجرد شعار"
"تذكر أن الوطن هو المكان الذي تأنس فيه وإليه روحك، روحك وحدهاتعرف معناه ومكانه، روحك فقط."
"وطنك الذي يمنحك الدفء والبهجة، المكان الذي يحتظن تاريخك وحاضرك أنت.. وطنك أنت"
كانت هذه مقاطع من الإهداء الذي ابتدأ به الكاتب روايته.
فكرة الرواية واضحة لا تحتاج إلى كثير من التركيز لفكّ تفاصيلها، لكنها تحتاج إلى تركيز من نوع آخر، يفهم كمية الوجع والقرف المتداول بين أبناء الوطن الواحد في عراق صدام حسين وما بعد صدام حسين.
بطلي الرواية ( علاء كاظم وزوجته الدنماركية كميلة أندرسن ) يخوضان "تجربة" صعبة، بعدما يقرر علاء زيارة العراق مصطحباً زوجته بعد سقوط نظام صدام حسين بعام واحد، ويذهب إلى مرتع صباه ومدينته الصغيرة حيث عائلته واصدقاءه. ( المحمودية ) تلك المدينة الصغيرة الملاصقة للجزء الجنوبي من بغداد.
يقع الزوجان في أسر الجماعات الإرهابية التي تنشط في تلك المنطقة المسماة ( مثلث الموت )، وتكون نهايتهما كارثية، ولبشاعة التفاصيل التي يمرّون بها، عمد الكاتب على تخفيف هذه الجرعات، بزجّ كميات من المعلومات والتفاصيل عن أبناء تلك المدينة الصغيرة، حتى يصل القارئ إلى سؤال مهم ينفرز أمامه مع السطور ( ترى ؟ هل كل هذه التفاصيل عن هكذا مدينة صغيرة بالكاد معروفة للعراقيين ؟ ).
الكاتب يؤرخ لمدينة المحمودية، بتفاصيل الشخصيات ( الحقيقية منها والمتخفية تحت أسماء مستعارة )، سلوكهم، عوالمهم المعلنة والسفلية، شذوذ بعضهم وعبقرية آخرين. يؤرخ للمكان، بتفاصيل الشوارع والمحال التجارية والأحياء. يؤرخ التفاصيل اليومية، التعاون والمحبة، الغش والغدر والحقد في الجنبة الأخرى.
ومع هذا السرد يسير علاء وكميلة إلى قدرهما السيء الذي رسمه الراوي بشكل مفجع، دون أن تتأثر الصورة الروائية لدى القارئ، وكأن الرواية تحكي عن زورق جميل يسير على نهر يمضى إلى هاوية مرعبة، فعلاء وزوجته هما هذا الزورق الذي يسير حيث يسير النهر، وما النهر إلّا تفاصيل منطقة "مثلث الموت" في ماضيه وحاضره القاسيين.
"أشعر بالانهيار، لا أستطيع الاحتمال، إن ما يجري لنا فوق طاقتي، لقد سئمت هذا المكان الذي يشبه القبر"
تقول كميلة أندرسن ( ص212 )، فهي لم تمرّ بهكذا ظروف وأجواء قاسية، بين أيدي أناس لا يملكون ذرة إنسانية، والحقيقة التي أصرّ عليها الكاتب، أن كلّ التجاوزات التي صدرت وتصدر من الجماعات المتشددة، ماهي إلّا استمرارية لنهج حزب البعث الذي حكم العراق طيلة 35 عاماً، وكل الأشخاص الأشرار في الرواية هم من نتاج فكر الرئيس صدام حسين، بغض النظر عن اختلاف انتماءاتهم إلى أجهزته البوليسية، سواءاً كانوا أعضاء في الحزب أو منتسبين إلى أجهزة الأمن والمخابرات أو حتى أناس عاديين باعوا شرفهم للسلطات، ولقد أبدع الكاتب في إيصال هذه الفكرة من خلال تشريح تفاصيل سلوكيات أولئك بمبضعٍ دقيق وقاسٍ عليهم وعلى "القارئ".
الكاتب حسين السگاف، كتب روايته هذه عن مسقط رأسه وسنين شبابه في مدينة المحمودية التي غادرها في زمن أعوجٍ ونجى من كلاب البعث السائبة في كل زاوية، وبروايته هذه كأنه يقطع آخر خيط بينه وبين أمل الرجوع لها طالما لم تتطهر المدينة "ولم يتطهر العراق" من بقايا أزلام البعث وأيتام صدام.
"المحمودية" نموذجٌ لعراقٍ موجعٍ مصغّر، هكذا أراد الكاتب حين جمع كلّ هذا الكمّ من التناقضات والفوارق الطبقية، التي أسست لبنية هشّة وتصادم كان لابد منه بعد ماسك أطراف اللعبة القذرة.
يجب أن تصنف هذه الرواية في خانة، تاريخ المدن، بغض النظر عن حركة أبطال الرواية، فهي زاخرة بكم المعلومات والتفاصيل التي تدخل حتى في اختصاص رجال الدولة الذين يحتاجون إلى فكّ شفرات الحركات المتشددة وبدايات تكوينها بعد سقوط نظام صدام حسين.
وكقيمة أدبية، أرى أن الكاتب قد أبدع في تصوير مشاهد الحركة والزمان والمكان وربط بينها بطريقته الخاصة، وهو المعروف بباعه في هذا المجال، فشكراً لجهده الرائع ولساعاته الطويلة التي عاشها وهو يكتب كل هذا الوجع.
..

[email protected]
&