حين تطأ هذه الكلمات حواس القارىء بوصفها نشدانا لمعرفة القصيدة:" القصيدة محرقتنا، نحن الوحوش الكاسرة، نحرس باب المجاز بشراسة" .. تعبر عن هذه الكلمات بقسوة رائية عن المكابدة التي يعانيها الشعراء والشاعرات في تخليق القصيدة. إن كتابة& القصيدة أشبه بالمحرقة. إنها ليست مجرد استطراد للكلمات، وليست مجرد لعب بالجمل، ولكنها حالة خلق تأتي بعد انصهار الكلمات والجمل على بوابات المجاز. ذلك لأن أبسط ما يمكن أن يقال هنا كتعريف مبدئي عبر بول فاليري:" الشعر لغة خلال لغة" أي أن ثمة لغة هناك تركض وتتوامض في خلفية الكلمات، أو هو حسب تعبير الدكتور عبدالمنعم تليمة: كيفية خاصة في التعامل مع اللغة" .
&من هذا الاحتراق المبدئي الذي تنبثق من خلاله القصيدة تطل تجربة الشاعرة فيوليت أبو الجلد، في ديوانها& :" أرافق المجانين إلى عقولهم" بعد إصدارات سابقة هي : "بنفسج أخير"، "صياد النوم" ، "أوان النص .. أوان الجسد " .
والشاعرة في نتاجها الشعري تسعى لتقديم تجارب دلالية مختلفة، عن السياق البدهي الذي قد يقل الشاعرة إلى سياقات رومانسية بسيطة، الشاعرة تسعى دائما لابتكار أجواء مختلفة، بدءا من طقس الكتابة وليس نهاية بالرؤية التي تقدمها للذات وللعالم. ولعل في عنوان ديوانها ما يغري باستثارة التأمل الجنوني في كيفية مرافقة المجانين إلى عقولهم وهي بالتأكيد رحلة شاقة لأن الجنون ربما يكون ذروة العقل، وربما يتكشف عن حالات لا واعية تمضي في نسق تيار الوعي بغموضه، وسورياليته، وانحرافه الدلالي .
&وتقلنا الشاعرة بدئيا في ديوانها:" أرافق المجانين إلى عقولهم" إلى أجواء الكتابة، حيث تقول:

لأكتب عليّ أن أطفئ النور وأشعل غرفتي ،
أن أغلق الشبابيك والأبواب وأفتح شهيتي ،
أن أعشق أكثر من رجل في عبارة قصيرة،
أن أراقصهم بفستان وحدتي الطويل ... الطويل ،
أن أسير حافية على صمتهم عن خياناتي البريئة.
لأكتب علي أن أوزّع الماضي على المساكين ،
أن أرافق المجانين الى عقولهم وأعود بغنائم فادحة ،
علي ان أخسر رئتيّ ... أن أختنق بصوتي ،
بينما الأغنية التي مات عازفها منذ يومين
تمتد الى الحقول القريبة لتملأ هذا الجوار
بالحب الذي أطفأته وأنا ... أكتب.

إنها كتابة مختلفة وطقوس ذاتية، تجترح هذه العلاقة بين الذات والانفعال الشعري، لتتوامض طقسيا في : النزوع إلى الوحدة وفتح شهية الكتابة لكل الأشياء التي تثير الحس، العلاقات العاطفية، الخيانات، التقابل مع المساكين والمجانين، الوصول إلى غنائم اللا وعي، فالكتابة حالة طقسية لها تمددها، ولها سطوعها الذي يخترق الأشياء فيما هو يصغي لها ولجمالياتها المتعددة. هكذا تقنعنا فيوليت أبو الجلد بطقسية كتابتها التي تتوالى في مشاهد أخرى في صفحات متعددة بالديوان.
وتشكل فاعلية الكتابة أفقا إدراكيا لدى الشاعرة، منه تنطلق وإليه تعود، فالكتابة ليست مجرد التقاط كلمات مجازية من هنا أو هناك، وليست تعبيرا إنشائيا عن حالة ما، أو موضوع شعري، ولكنها كتابة& خلق وتكوين عوالم ثرة مدهشة، مترعة بالتخييل& والتصوير الذي يتضامن مع الأشياء. إن جسد الذات الشاعرة ليس وحيدا، أو هو بشكل أو بآخر، لا يعاني من عزلة ما قدر ما يحدث أشكالا من التماهي في الأشياء، يعبر بها وعنها، وينصهر في دلالاتها .
&إن الشاعرة التي تصنع أجواء من الغرابة، يحضر فيها المساكين والمجانين، وتحضر فيها دلالات: الخيانات والبراءة، والظلمة والنور، والحقول، والعواطف في بنى متشابكة – كما أوضحت سابقا- تقود القارىء إلى علاقات جديدة ودلالات مثيرة لتأملاته، خاصة أن الشاعرة تركز فيما تركز على تمثل المفارقة، والضدية، وقراءة الوعي الباطني لعلاقات الكلمات – إذا صح التعبير- إنها تتحرر من ضغوط العلاقات السياقية التقليدية، ومن ضغوط الافتراضات التي ربما تصنعها مجالات الكلمات وحقولها الدلالية، لهذا فهي تقدم المثير والملفت دائما.
&وفي مشهد كتابي آخر تفض الشاعرة طقوس كلماتها، وتبرر جماليا لم تكتب، وكيف تكتب، في استهلال جلي تبوح فيها بأنها تكتب كي تصير الكلمات قديمة، كيف ذلك لنر لهذا النص الذي يحمل الرقم (20) بديوانها:

أكتبُ كي تصير الكلمات قديمة ،
كي يتكاثر القراصنة والغرقى والأشباح.
أكتب لتليق غرفتي بهذا الغبار المتكدّس فوق أحلام يقظتي.
لأعتذر من أعدائي ،
لأعبر الشارع والمدينة والوطن من دون أن يدهسني القتلَة والقتلى.
أكتب كي يخلّصني الخطأة وأخلص القديسين.
كي أموت كل صرخة وأبعث كل أغنية.
أكتب لأني أغار من الوديان ،
لاني أخاف الجبال ،
لأني لست الصخرة ولا الطائر ولا الصدى.
لأني دائما وحدي
لأني كسولة
لأني منطوية على نفسكَ!
أتمرّد لا يرحمني أحد ،
أرجمهم ولا أخدش سواي ،
أكتب لأني لا أفهم ما يجري ،
لأن ما يجري لا يفهمني.
لأني حائرة وقلقة وخائفة،
لأني صغيرة على كل هذا الخذلان
وكبيرة بما يكفي لأشيخ فوق نصّي واذوي.
أكتب لأني لا أملك ثمن تذكرة سفر اليك،
لأنك لست وحيدا كما يليق بي ،
لأنك لست حزينا ،
لكنك تقبض على الجمرة ،
." لكنه النهر"&&&&&&&& ( الديوان ص.ص 11-12

تغيير القيمة المتصورة:
إن الشاعرة التي تبحث دائما عن المبهر، والمدهش، والصادم لا تخشى من الدلالات الأكثر شراسة التي قد تطفىء الحياة، إنها تريد أن تغير القيمة المتصورة عن هذه الدلالات، لذا نراها تركز في شعرها أحيانا على دلالات كبرى ذات قيم فالتة، وضالعة في توحشها، كالأبدية والأزل، والقتل، والخيانات، والطعنات. إن الموت يتحول لديها قيمة إيجابية حين تستطيع مقاومته، ولا تخشاه سوف يتحول الموت إلى ذكرى وإلى فضاء متسع لهذه الذكرى، تقول في النص الذي يحمل الرقم 22:

خبئني في جيبكَ الصغير أيها الموت،
أريد أن أخشخشَ مع مفاتيح من راحوا،
دعني في هذه العتمة الضيّقة
أتسع كالعدم.
ص 13

وبالقدر نفسه تغاير الشاعرة المألوف وتقدم جملة من الصور الصادمة المتتابعة& مستثمرة فاعلية التشبيه الذي يؤكد على طرف مفارق في عملية التشبيه الثلاثية، وهي مفارقات تتسمى شعريا هنا لتصنع قدرا من مباغتة القارىء بدلالات مختلفة لم يعتدها من قبل:

فاحشٌ كأيقونة تعرَّت ،
ككنيسة تحوّلت الى حانة،
كضحكة امرأة في مأتم عشيقها،
كانهيار عصبي في جلسة يوغا،
كالأوسمة على أكتاف الموتى،
كالمراثي في أعراس الشعراء،
كشهوة معلنة،
كملمس الندبة على وجه قاتل مأجور .
فاحشٌ كحب.&&& ( ص 45)

إن تصدير النص بكلمة لها صدمتها :" فاحش" وهي كما اعتدنا في قراءتنا مرتبطة بكلمة :" الثراء" تغير من أجوائها الدلالية، لتنقلها إلى سياقات أكثر غورا في مفارقتها، لأنها انتظمت في سياقات صادمة لا في سياقات تقريرية معتادة. ولا ندري هذا الفحش يعود على من .. هل يعود على آخر مستدعى؟ أم على دال معين غائب تنقب فيه الشاعرة عن قيمة ما .. بيد أن الأوسمة التي على أكتاف الموتى والمراثي التي في أعراس الشعراء تقول لنا إن القيمة تتمثل في هذه الصدمات المتتالية التي لا تتوقف أمام مخيلة القارىء.

إلحاح الكلمات الطريدة:
&لا تلتقط الشاعرة كلماتها القديمة، بل الكلمات الطريدة التي تحقق للنص خصوبته وإثارته الجمالية، وهذا ما نراه حاضرا بكثافة في مقاطع متعددة، خاصة في هذه الصور المتداعية التي تحضر فيها ذاتها الشاعرة بشكل كثيف. والكلمات الطريدة هي الكلمات التي تفارق هدوء الأفق الوجداني، وتصطخب أكثر بثورتها وتمردها ومغامراتها وكشفها. وفي نصوص عدة تقلنا الشاعرة إلى أجواء تحضر فيها شخصيات متنوعة: الخياطون المهرة، الشعراء، القتلة والقتلى، القديسون، القراصنة والغرقى، الأشباح، الرسل، النسوة الحائرات، المتصوف، الأنبياء، العشاق، السكارى، العراة ، كأنها تريد أن تتخلص من ضجر ما لمتابعة هذه الشخصيات الأكثر إثارة للأبعاد الدلالية في النصوص، أو كما تعبر:" الكتابة انتصار على الضجر" .
&وفي نصوصها أرقام 15 / 21/ 27/ 17/ 24/ 31/ 32 / 22 تقدم عوالم أكثر غثارة للدللالة، فيما توازن بين هذا الحضور المثير الذي ينتصر على الضجر وتقدم بعض الدلالات المعتادة التي تعبر عن الحزن والهجر والفقد، وتربط بين الشعر والحب " وما الشعر إذا لم تنسكب على صدر امرأة ؟ " .
&وهي تعبر عن هذا الفقد أحيانا بشكل تقريري تحضر فيه الأنا لتغمس تعبيراتها الجلية في أفق الكلمات:
أنا التي لا حديقة لي ولا طريق لبيتي
أريد أن اقع في النهر وحدي
وقد يصبح الحب مخلصا ذاتيا لتجربة من الفقد والألم:
أنا قبلة يهوذا على خد الندم
لفحني الحب
صار النسيم إلها
سقطت من يدي فضة
لكنهم ساروا على اللغة. / ص 31
ولا تقدم الشاعرة فيوليت أبو الجلد بنية خطابها الشعري عبر العلاقات المباشرة أو التقريرية التي قد تتولد من انبثاقات شعرية قصيدة النثر في بعض أوجهها التي تركز على التفاصيل الصغيرة والهموم اليومية، إنما تقدمها في نسق شعري يحتفي بالمضمر من العلاقات، ويسعى لابتكار علاقات جديدة قوامها: الغياب، والبحث عن الامتدادات الداخلية للكلمات لا الخارجية واعتماد الذات الرائية مرتكزا لهذه الامتدادات:
من خوفي أختبىء
من خوفي أنبت على الصخر
وفي حناجر الطيور الكاسرة
أنفق وحدتي، أنفق وحشتي
وأدين للحروب بأصدقائي
نادمة وأبكي
أنا الحقل المخمور بدموع العابرين
ولا أحد.
عبرت الشاعرة عن الخوف بالاختباء داخل الذات. هنا يصبح التأمل أكثر تقبلا أو لنقل بحثا عن وعي آخر. الوعي الداخلي وعي متكسر متجدد، سوف يطل بوحدته ووحشته وغموضه. سوف تعانق الذات ذاتها ، ولا يوجد ما هو خارج، حتى إن العابرين لا أحد.
&هي رؤية مضمرة ونسق خفي تتطهر فيه الذات داخليا وترى جحيمها وفردوسها في فضاء الوعي / اللا وعي ، وهو فضاء أكثر شراسة في إعادة تأمل الكلمات وإعادة صياغتها في سياقات جديدة.
&إن المضمر والخفي والمكنون والغامض هي توصيفات بادهة لما تقدمه الشاعرة في جانب جلي من نصوصها، وهذا ما يسم تجربتها بالاختلاف عما تقدمه شاعرات مجايلات لها في المشهد الشعري اللبناني . إن فيوليت أبو الجلد لا تترسم خطى تقليدية في قصيدة النثر بل إنها تتجاوز هذه الحواف الرومانسية البسيطة التي قد تحفز الشاعرة – أية شاعرة- على الكتابة مثلا عن الموضوع النسوي الأول في التجارب النسوية الشعرية وهو الحديث عن الآخر / الرجل، ووصف أو توهم وصف علاقة وجدانية ما.
&إن الفضاء الذي تترى فيه تجربة الشاعرة في هذا الديوان يحقق وعيا خاصا بتجربة جمالية لها ثراء تعبيري مختلف، ويقدم أفقا لا واعيا مضمران فيما يبوح في الوقت ذاته بعناصر جمالية مكثفة مفارقة تبسط الكلمات لتضمر في معانيها أسئلة تنقب عن يقينها الجمالي الدال.
&