عند قصر الحمراء ((1238- القرن الرابع عشر) في غرناطة بالاندلس، اصل الى أطراف نهايات ما كنت اخطط له في دراستي التى استمرت سنين عديدة، والخاصة "بالقصور الأموية": ظهورها في المشهد، ونماذجها التصميمية، وتأثيراتها اللاحقة. انها، حقاً، منجز معماري هام، اضاف الكثير الى الذخيرة المعمارية العالمية، وساهم في تنويع "تابولوجيتها" الوظيفية.
تابعت هذه النماذج التصميمية في امكنتها ومواقعها، وسافرت اليها مع "كاميرتي" لرؤيتها موقعيا وتسجيلها تصويرياً. واستأنست بصحبتها وهي في مواضعها، ببوادي الارن وسوريا، مرورا ببادية العراق عند قصر الإخيضر، وقصور"سر من رأى" عاصمة العباسيين الاسطورية، وصولا الى الاندلس. احببتها كثيراً، وتماهيت معها ومع عمارتها. في كثير من الأحيان، اجلس لوحدي فترات طويلة، عند بقايا وآثار "حضرة" ذلك المنتج الرفيع، والمؤسس، والراقي. ولفرط تماهيي مع المكان، كنت احياناً، <اتحدث> مع شاغلي، يوماً ما، تلك القصور من امراء ورجال دولة .. ونساء جميلات، سَكنّ تلك الاحياز وبقيت انفاسهن، مثلما ظلت انفاس اؤلئك "الساكنين" مرابطة للمكان، رغم مرور هذا الكم الهائل من السنين، بل قرون عديدة من السنين!
اصل، اذاً، الى قصر الحمراء، كشاهِد لتلك المسيرة الابداعية المبجلة، وكمَشهَد مميز، من ذلك النشاط الذي تكوّن، لاول مرة، في بلاد الشام البعيدة، وترسخ، لاحقاً، في انحاء كثيرة من العالم الإسلامي. فالفكرة المرموقة، لا تصح في ذاتها، بقدر قدرتها على التوليد واستطاعتها ان تكون متداولة، وفي تأثيراتها لاحقاً، وبخلقها امكانات متاحة للاقتباس والمحاكاة. والحمراء- درة العمارة الاندلسية، انها وبحسب شاعرها الغرناطي "ابن زَمرَك" وزير بنى الأحمر، وتلميذ لسان الدين بن الخطيب، <"ياقوتة" على تاج هضبة السبيكة>، التى تنهض بجواراها "الحمراء"، اخذت الكثير من ذلك النشاط المعماري الأموي المرموق، لكنها ايضاً، اضافات الكثير لما يمكن ان يكون فخر العمارة الإسلامية في تجلياتها المدنية!
واذ تُبيّن الحمراء، ولع معمارها في اضفاء احساس جديد لمفهوم العمارة السكنية، فان ذلك الولع تمظهر، بصورة خاصة، في معني "الفضاء" <الاندلسي>، ذلك "الفضاء المحصور" الذي يشكل بُنيـّة العمارة ويمنحها مفهومها، وفقاً، لتعريف "لو كوربوزيه" للعمارة، لكنه هنا، في الحمراء، فضاء "آخر"، ينزع للتعبير عن مفارقة تكوينية، تمنح العمارة المجترحة بعدا جديداً: هاماً ومبتكراً، لم يكن متاحاً من قبل!& فَهّم "التشكيل"، الذي يحضر على سطوح جدران وسقوف المبنى بكثافة لا نظير لها في الممارسة المعمارية العالمية، وبكل تنويعاته الاسلوبية المختلفة، من "زليج" وبلاطات الجص المزخرف والملون، واشكال "المقرنصات" المتدلية، وسيل من كلمات عربية بابعاد ثلاثية، مخطوطة بخط اندلسي معبر، فضلاً على "تشغيل" الماء واستخداماته المبتكرة، يراد منه الحصول على فضاء خاص مترع بدلالات الشعور بـ"الفسحة" غير المحددة وغير المقيدة بعناصر تركيبية، يفترض وجودها لتيسير عمل العمارة والقيام بوظائفها السكنية المتنوعة. وهذة المفارقة المجبولة عليها تكوينات الحمراء، هي القادرة على "تهشيم" مادية التراكيب البنائية، وتمويه حقيقتها الإنشائية، كان استدعائها بالحمراء امراً مطلوباً، لجهة إرساء مفهوم "الازاحة" بمعناها التفكيكي (الذي تكلم عنه كثيراً "بيتر ايزنمان": احد اهم المعماريين التفكيكيين)، للاقتراب من تخوم احدى تنويعات المفارقة المفاهيمية، و"الاغتسال" بفيض معانيها ورمزيتها! فمعمار الحمراء، وهو معمار مجتهد، وقادر، ..و"ساحر"، في الوقت نفسه، بمقدوره أن <يَرى ما لم يُرى>، لكن الاهم& في ذلك، انه باستطاعته ان "يحيل" <الفضاء المحصور>، بعصاه السحرية، الى فضاء فسيح، غير محدد وغير نهائي، معتمداً، بالاساس، على تأثيرات التشكيل المستدعى بكثافة، والعامل بنشاط على "تثقيب" الكتل التركيبية، وزيادة هشاشتها، لجهة الوصول الى "تهشيمها" بالكامل، ومقايضتها بـ "سراب"، يشي حضوره المتخيل، باستحضار اساسيات المنطق الإنشائي "التكتوني" Tectonic للمبنى. من هنا، يمكن فهم توق معمار الحمراء، وإدراك جرأته في مسعاه وراء تقصي معالجة تصميمية، بمقدورها ان ترفع عاليا من قيمة الفضاء الذي بحوزته، وجعله ليكون "سيد" المقاربة التكوينية، التى اصطفاها لتلك العمارة الآسرة!&
الصور التى التقطتها للحمراء، يوما ما، قد تفسر ما اود ان اعنيه!

مهندس معماري