حتى سنوات مـاخرة من القرن الماضي، ما كانت الدراسات الفلسفية لتهتم بفيلسوف الغابة السوداء مارتن هيدغر (1889 - 1976) في العراق، إلا أن الباحث والأستاذ الجامعي الدكتور رسول محمد رسول، المتخصص بالفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، راقت له فلسفة هيدغر حتى إنه استبشر خيراً بترجمة الدكتور فتحي المسكيني لكتاب هيدغر العمدة (الكينونة والزمان) باعتبار هذا الكتاب يضم أسس خطاب هيدغر الفلسفي الرئيسة، ولذلك عكف رسول على دراسة هيدغر عبر الإصغاء لنصوصه الفلسفية حتى صدر له في بغداد مؤخراً كتابه الجديد العلامة.. الجسد.. الاختلاف.. تأملات في فلسفة مارتن هيدغر) عن دار ومكتبة عدنان للنشر (2015)، وهو الكتاب الورقي الأول، على ما يبدو، يصدر في بغداد عن فلسفة هيدغر.
يقع الكتاب في ثلاثة فصول تتناول مفاهيم مركزية في خطاب هيدغر هي العلامة والجسد والاختلاف، ناهيك عن فصل رابع يبدو قراءة تحليلية لأهمية ترجمة الدكتور المسكيني لكتاب هيدغر (الكينونة والزمان).
وفي اتصال هاتفي لنا مع الباحث العراقي الذي يعيش في العاصمة الإماراتية أبوظبي منذ عشرين عاماً حول ريادة كتابه هذا في الدراسات الهيدغرية بالعراق قال: "في عام 2000 ظهرت بالعراق أول اطروحة جامعية عن فلسفة هيدغر نهض بها الدكتور كريم الجاف، أستاذ الفلسفة المعاصرة في الجامعة المستنصرية، ومن بعده نهضت الدكتورة فاتن مريوش، أستاذة الفلسفة المعاصرة في جامعة بغداد، بكتابة أطروحتين؛ واحدة للماجستير عام 2007، والثانية للدكتوراه عام 2014. إلا أن هذه الأطاريح الثلاث للأسف لم تُنشر في كتب متاحة للقارئ العام والمتخصص، ولذلك يأتي كتابي هذا كأول كتاب ورقي يصدر في بغداد ويتناول مفاهيم مركزية اشتغل عليها الفيلسوف الثعلب مارتن هيدغر".
وإذا كان الفصل الثاني (الوجود والموجود: في الفرق الأنطولوجي)، من بين فصول هذا الكتاب، قد تناول فيه الباحث دلالة هذا الفرق أو الاختلاف الأنطولوجي وهو مفهوم سلّط عليه بعض الباحثين بمعاول تحليلاتهم من ذي قبل، فإن الفصل الأول الخاص بالعلامة، وكذلك الفصل الثالث الخاص بالجسد، يبدوان باكرين في تناولهما من جانب المؤلف؛ إذ لم يتصدى إليهما أحد ما من الباحثين العرب المهتمين بفلسفة هيدغر.
لهذا، يأتي هذا الكتاب إلى منطقة الاشتغال الجديد في فلسفة هيدغر، وهو اشتغال يبدو عميق الأثر في مستقيل الدراسات الفلسفية الهيدغرية كون مؤلفه اقترب من صوت هيدغر عبر نصوصه مباشرة، فهو كما يقول في مقدمة الكتاب: "منذ بدأتُ أقرأ نصوص هيدغر المتاحة باللغة العربية، وأنا تلميذ يقصد تعلُّم الحكمة الفلسفية في كلية الآداب/ قسم الفلسفة - جامعة بغداد، ابتداءً من مطلع ثمانينيات القرن العشرين، كانت مفاهيم هيدغرية عدَّة تستأثر باهتمامي، ومنها: العلامة، والاختلاف، والجسد، وهي المفاهيم الثلاثة التي اشتغل عليها هيدغر في غير كتاب من مؤلَّفاته الكثيرة. ولهذا، وجدتُ من المناسب، وفي كتابي المتواضع هذا، دراستها بالعودة إلى المتن الهيدغري الفلسفي ذاته، وهل هناك أجمل من الإنصات إلى صوت المتون الفلسفية؟".
أما عن تجربة الفيلسوف المصري الراحل عبد الرحمن بدوي، وتجربة الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني مع فلسفة مارتن هيدغر، دراسة وترجمة، فجاء في مقدمة الكتاب:
"ما زال الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر يشغل حيزاً كبيراً في عالم الفكر الفلسفي المعاصر؛ فعلى الصعيد العربي وجد فيلسوف الكينونة والوجود والزمان اهتماماً واسع النطاق في مباحث الفلسفة العربية داخل أسوار الجامعات وخارجها منذ نشر الفيلسوف المصري الدكتور عبد الرحمن بدوي (1917 - 2002) كتابه (الزمان الوجودي) باللغة العربية عام 1943، الذي كان باكورة مهمة في الدراسات الهيدغرية، ومن ثم كتابه (دراسات في الفلسفة الوجودية) عام 1980، وربما قبله وُجدت بعض الإشارات إلى فلسفة هيدغر، إلاّ أن ما أسَّس له الراحل بدوي، وهو ينفتح على النَّص الهيدغري، قارئاً ودارساً ومُفلسفاً، صار مفتاحاً لاهتمامات قرائية وترجمية عربية عديدة لاحقة نراها تستمر حتى يومنا هذا في ظلِّ الإقبال الحميم على ترجمة بعض نصوص هيدغر، ودراسة فلسفته، ولعل ترجمة الفيلسوف التونسي الدكتور (فتحي المسكيني) الدَّسمة لنص هيدغر العمدة (الكينونة والزمان) عام 2012 تعدُّ مؤشراً واضحاً على ذلك الإقبال الجاد، وإن بدا ذلك إقبالاً شخصياً من جانب المسكيني على فلسفة هيدغر، وهي الترجمة التي ستفتح أفاقاً جديدة لدراسة مفاصل تلك الفلسفة، خصوصاً في حدود الكون الدلالي لمصطلح (الكينونة والزمان) أو مصطلح (الوجود والزمان) أو مصطلح (الكون والزمان) بحسب الترجمات العربية المختلفة، رغم أن ما تُرجم حتى الآن من مؤلّفات هيدغر هو قليل مقارنة بما كتبه وألَّفه ونشره حتى رحيله".
وكان رسول قد أصدر في هذا العام (2015) كتابه عن دار الشؤون الثقافية في بغداد (فلسفة العلامة: من جون سانت توماس إلى جيل دولوز)، وهو كتاب ضخم يقع في 380 صفحة من القطع الكبير وقف فيه عند تخوم الرؤى الفلسفية الخاصة بالعلامة ليغطي نحو خمسة قرون من الزمان كانت المعرفة السيميائية فيها تنمو على نحو مطرد حتى بدا هذا الكتاب الأول من نوعه في مجال تخصصه يصدر عن باحث عربي.
&