لويس ثيرنودا، الذي أعطوا الأسبان له ظهورهم، كان الشاعر الدائم البحث في قصائده عن الحب بين الرجال.&

قبل أسابيع من نشوب الحرب الأهلية، دخل واحد من أبرز الكتب الشعرية في القرن العشرين تأريخ الثقافة الإسبانية. ففي ربيع عام 1936، قام لويس ثيرنودا بجمع قصائده وضمها في أول كتاب له بعنوان "الواقع والرغبة"، الذي إحتوى أيضاً على القصائد التي صدرت في كتاب بالمكسيك قبل عام من وفاته عام 1963.
وقد تركت أعمال ثيرنودا أثراً بالغاً على الأجيال الشعرية ما بعد الحرب الإسبانية. وهو الذي دعا إلى هذا الإلتزام الشعري المحفوف بالمخاطر، والذي أطلق عليه "الشعر التجريبي"، ومن ثم حاولت الأجيال اللاحقة محاكاته. أن تكريس ثيرنودا نفسه للعمل بصفة ناقد ومترجم وأستاذ يدعونا للتأكيد على هدفه المتعمد لبلورة ليس إسلوبه المتميّز فقط، بل فكرة ما ينبغي أن تكون عليه اللغة الشعرية. وأن التباين في نبرته، وفي إختيار مفرداته وتفضيلاته المعيارية، تعود إلى إجراءات تنقية في غاية الصعوبة. وغالباً ما كان ثيرنودا يؤكد على أن منفاه وإطلاعه على الشعر الإنكليزي، كان قد حرره، في رأيه، من أسوأ العيوب في الشعر الغنائي الإسباني: الشفقة والتفخيم. وتنسب للشاعر أيضاً& ما جعله يبرز في نظر الآخرين ويقف في مقدمتهم، ذلك من خلال قدرته على إدماج اللغة الشعرية الإسبانية مع تيار بلغ ذروته في النصف الثاني من القرن العشرين.
أن الشعر التجريبي، بالنسبة لثيرنودا، ليس مجرد قصة يومية دون مواصفات شعرية، بل هو العكس من ذلك تماماً. أنه إستجابة للجهود المبذولة لبلورة المشاعر عن طريق اللغة الشعرية، جاعلاً من ما هو معاش، إلى جانب الخلجات، والأفكار التي تنتاب الكاتب، جسراً للتواصل داخل عالم شعره الخاص جداً. أن التجربة ليست حكاية تتعلق بالشاعر كما يقول: أنها القصيدة التي تبني هذا الظرف وبلغة غنائية.
قبل الحرب الأهلية، كان يبدو كتاب "الواقع والرغبة" هروباً من العلاقة المؤلمة بين ثيرنودا المتعطش، بسبب خياراته العاطفية، وبين عالم مغلق لا يستوعبها.
هل يمكننا إعتبارأن تأريخ إسبانيا تلك، السائرة في طريق البحث عن خاصيتها وإرادتها القوية خلال الحروب الأوروبية، كان بمثابة قصة مرعبة تهدف إلى مواجهة خائبة، من دون حل، بين الرغبة الجامحة لبناء أمة حديثة، والواقع المؤلم لروح التعصب، والتخلف واليوتوبيا العنيفة؟
لويس ثيرنودا أدرك أن ما كان يعاني منه لم يكن مجرد معاناة شخصية، أو مشكلة ذاتية، بل حالة تعكس حبه العميق للوطن، وبسبب من حبه لإسبانيا، كان يرفض كل ما يهدف إلى إحباط أحلامه، فيما يتعلق بالحرية.
لم تلمس الطبعة الأولى من "الواقع والرغبة" ذلك التناغم الجميل لأغنية قادمة من المنفى إلى إسبانيا الكئيبة والمشتعلة، حيث إختلطت في رمادها آمال جميع المواطنين الذين رافقتهم فكرة الأمة مذ ولدوا، مع بداية حرب الإستقلال. لكن، كانت هنالك البعض من القصائد المؤثرة جداً لكاتب سرعان ما ترك وراءه برودة "الشعر النقي"، ليقترب من الإلتزام الأدبي والإنساني.
في ثلاثة من نتاجاته الإبداعية: "توسلات"، و"الملذات المحرمة"، و"حيث يسكن النسيان"، دعا ثيرنودا إلى ملتقى للرجال من خلال الحب، وتقديس الجمال. وهذا الجمال لم يكن مجرد مرجعية جمالية، بل قيمة عاطفية، تراهن على إدماج الجميع ضمن الخير المتألق.&
كانت جميع مراحل خيبات الأمل، والدعوة للنسيان، قد تمّ تجاوزها دائماً، نتيجة البحث المتعطش عن الآخر، عن الجسد، عن الشخص الذي يحاول كل واحد منا العثور، من خلاله، على خاصيته: "أنا لا أعرف الحرية، بل الحرية أن أكون أسيراً عند إنسان يقشعر له بدني عندما أسمع إسمه".
أن التنديد بالوحدة والإختلاف تبدو اليوم تشبيهاتٍ واضحة لإنهيار تعايش كان لا بد منه، وفشل من أجل التوصل إلى وفاق. هذه التشبيهات كانت حازمة جداً لدى ثيرنودا الذي كان غادر إسبانيا في العام 1973 على أن لا يعود إليها أبداً. لكنها كانت كامنة في تلك الأشعار المتوترة والقاتمة بوضوحٍ تام، تدعو بقوة للحب في غياب المودة بين الرجال.

لويس ثيرنودا في سطور&
واحد من أبرز الشعراء الأسبان من جيل 27، ولد في 1902 في إشبيلية، بإسبانيا، وتوفي في 1963 في مدينة مكسيكو بالمكسيك. حاصل على شهادة الليسانس في القانون من جامعة إشبيلية، قرر تكريس نفسه حصرياً للشعر. إنتقل في عام 1938 إلى إنجلترا ولم يعد أبداً إلى إسبانيا. ألقى العديد من المحاضرات عن الأدب الإسباني في جامعات إنجلترا والولايات المتحدة. في العام 1952 إستقر ثيرنودا في مدينة مكسيكو. وأصدر مجموعة من الكتب الشعرية، من بينها "صورة الهواء، 1927"، و"حيث يسكن النسيان، 1934"، و"البحار الشاب، 1936"، و"الواقع والرغبة، 1936-1964"، و"الغيوم، 1943"، و"كمن ينتظر الفجر، 1947"، و"قصائد من أجل جسد، 1957"، و"خراب الوهم، 1962".

&