بغداد: صدرت للروائي العراقي صادق جواد الجمل روايته التي تحمل عنوان (لا الناهية) عن دار المرتضى، وهي الرواية& السادسة له، حاول فيها ان يستعيد صورا عن بغداد القديمة حافلة باسماء الادباء والمثقفين والحلة العتيقة ويشير الى ان الكتاب له مكانة في الحياة مهما تغيرت ظروفها.

تقع الرواية في 192 صفحة من الحجم المتوسط، صمم غلافها الفنان التشكيلي علي عبد الكريم، فيما كتب لها مقدمة الدكتور محمد الناصح،استاذ اللغة والنقد الادبي، بعنوان (لا الناهية.. صرخة وعي في اللا الخائرة) قال فيها (نستطيع القول ان رواية (لا الناهية) مرآة صادقية وصادقة لنقل واقع تاريخي بصياغة فنية متماسكة عن مكان الحدث وزمانه اللذين دارت فيهما فصول الرواية كاشفة عن صراع حقيقي لا وسطية فيه ولا تحييد)، لكن المؤلف يضع مفتتحا لروايته عبارة عن حكاية من (حكايات من ايطاليا) لمكسيم غوركي تحمل عنوان (تيمورلنك يا لذكراك الكئيبة) في اشارة منه إلى فوز الشاعر على الملك ( فليرفع مجد الشاعر فوق ملك تيمورلنك ).
&&& تتناول الرواية مراحل سياسية واجتماعية تبدأ من عقد الخمسينيات وصولا الى الثمانينيات، حيث يغور في اعماق الحياة البغدادية على مر تلك السنوات لاسيما ان المؤلف يتخذ من محلتي (الفضل وباب السيف) البغداديتين القديمتين مكانا لروايته من خلال (إبراهيم أبو الكبة) واسرته التي تركت محلة الفضل هاربة من شؤم البيت بعد وفاة رب الاسرة الى محلة باب السيف لتستأجر بيتا فتظهر اولا شخصية (حامد البلام) الذي يحوز على الصفحات الاولى من الرواية كونه العاشق لـ (عالية) ابنة ابراهيم ابو الكبة الذي يمنحه المؤلف فسحة العشق والزواج،الا ان شخصية البطل تتحول الى مجيد ابن ابراهيم ابو الكبة الذي تدور حوله الشخصيات ويكون محور الاحداث عبر رسم علاقته باسرته والمحلتين التي يعيش فيهما وعلاقاته الثقافية التي يجعل منها المؤلف انطلاقات نحو التذكير بالعديد من الشخصيات الثقافية العراقية التي لها حضورها الواضح في الساحة الثقافية أمثال الجواهري وبلند الحيدري وعبد الله كوران وذو النون ايوب ومحمد مهدي البصير وعلي الحلي وشاذل طاقة وشفيق الكمالي وعبد الستار ناصر وجبرا إبراهيم جبرا وحسين مردان، وعبد الامير الحصيري (لم يكن المؤلف منصفا حين وصفه بالمتسول) وغائب طعمة فرمان محمد بهجت الاثري وموسى كريدي، وينقل عنهم حكايات من مقهى البرلمان و مقهى الزهاوي والبرازيلية وحسن عجمي متجسدة بعلاقتهم مع مجيد ابو الكبة الشاعر الذي يعترف انه (متذوق للادب والشعر ويكفيه ان يكتب ما يجول بخاطره ولم يفكر بالنشر)، او المثقف الذي يمتلك مكتبتين احداهما في بيته والاخرى في دكانه وعبرهما تتضح العديد من صور الحياة البغدادية سواء تفصيلات المكان او العلاقات الاجتماعية، فيما يذكر العديد من الشخصيات مثل الملحن صالح الكويتي وجلال الحنفي ونازك الملائكة،كما انه يشير الى احداث سياسية مؤثرة في احداث الرواية مثلما يذكر فيما بعد ذكرى رحيل المطرب عبد الحليم حافظ (اخطأ في تحديد ذكرى وفاته بالشكل الصحيح قياسا لاحداث الرواية) يبدو ان المؤلف اراد ان يوضح ما كانت عليه البيئة الشعبية من ملامح في العلاقات العامة والخاصة وطبيعة ما كان يحدث فيها، واستذكار زمن كان فيه لمطرب مثل عبد الحليم على الرغم من مرور ثلاث سنوات على وفاته الا انه كان يجمع العاشقين، وقد جمع بين احمد وشمس اللذين التقيا على اغنية بذكرى وفاته مثلما كان المؤلف يؤكد على العلاقة الطيبة بين المثقفين انفسهم وروعة الاحاديث فيما بينهم فضلا عن تواضعهم وبساطتهم.
الرواية تناولت حكاية مجيد ابو الكبة.. مثقفا وانسانا بسيطا طيبا يعيش مع امه الطاعنة في السن التي تزوجه من الفتاة التي تزورها لتساعدها في اعمال البيت وتنجب له ولدين لكنها تتغير من ناحيته وتحاول ان تسيطر عليه وتقارن بين الكتب الكثيرة المرصوفة في البيت وبين عدم وجود بيت خاص للاسرة مما تضطره الى ان يبيع الكتب كلها من اجل ترميم البيت في محلة الفضل والطريف انه (جلس في ركن غرفته العارية الا من اثاث بسيط واخرج دفتر حسابات البناء يقارن بينها وبين اسعار الكتب، فتخيل ان الابواب اشترتها زوجته من دنانير دواوين المتنبي وابي فراس الحمداني والمعري والحطيئة وابي تمام والبحتري وابي نؤاس)، ومحاولته النظر في جهات البيت المرممة بمبالغ بيت الكتب الثمينة التي افتقدها.
فتتغير احواله نحو الاسوأ حتى تم وصمه بالجنون وصار محط سخرية الاطفال الذي يركضون خلفه ويتضاحكون منه (هيه.. هيه.. مخبل)، وصار يخاف الخروج من بيته الا في اوقات يخلو فيها الزقاق من الناس والاطفال، فيما زوجته في لحظة تجد نفسها منجذبة الى احد الاشقياء وتمنحه نفسها فيعلم بذلك زوجها الذي يسر احد اصدقائه من الاشقياء فيقوم باستدراج الشقي ذلك ومن ثم قتله لكن الشائعة التي تكبر تؤكد ان مجيد هو الذي قتل هذا الشقي على الرغم من استغراب البعض لضآلة جسم مجيد ابو الكبة الذي يختبيء لان السلطة تبحث عنه لانه هارب من اداء (الخدمة العسكرية)، فيذيع صيته كبطل فيهابه الجميع وحين يجد ان الحكومة تعرف انه بريء ولم يقتل الاشقياء الذي قتلت منهم الحكومة الكثيرين فيدور بينه وبين الضابط الشاب احمد حديث :
(- بحكم موقعي قرأت تقريرا عنك وآني أتصفح ملفك.
- تقرير عني.. ليش عرفتوا آني هارب من الجيش ؟
- مو بس هاي.
- بس شنو، يمعود كمل ؟
- أكو تقرير من الفضل يكول أنت قاتل محترف وقضيت على كل الأشقياء.
سحب سيكارة من العلبة وقدم لأحمد واحدة، وقال :
- إي كمل..!!
- فأهمل التقرير
- ليش !!
- لأن جماعتنا هُمه وراء تصفيات الاشقيائية وصفحتهم انتهت من زمان، ولم يعد هناك شقي يشكل خطر والدولة استفادت من مقتل أبو عوف وتركتهم يتقولون عليك والدولة تعرف أنت بريء من دمه).
&&&& لكن الناس لا تعرف مسألة الهروب من الجيش بقدر ما تعرف انه الذي قتل ذلك الشقي، فيظهر على الناس (مهابا رافعا رأسه بعد ان حلق شعره وتأنق ولبس بدلة بيضاء ووضع وردة حمراء على ياقة سترته) ليدخل المحلة ظافرا لكن على قدر من التواضع لانه لم ينس انه مثقف وعليه ان يعامل الناس بما تعلمه من الكتب، والناس تهلل له وتحترمه، وهنا يؤكد الكاتب ان الثقافة هي المنتصرة وتأكيد لما جاء في افتتاحية الرواية (فليرفع مجد الشاعر فوق ملك تيمورلنك)،فتنتهي الرواية هكذا (أشار لهم أن اقتربوا أكثر، فقال : إقرأ باسم ربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، صدق الله العظيم)
&& الرواية تدمج بين اللغة العربية الفصحى واللهجة العامية، فيجعل اللغة واللهجة تنسابان معا في نهر واحد من المتعة خاصة انها مكتوبة باسلوب سلس،ليس هنالك تعقيد او سرد مبالغ فيه بل انه يرسم صورا بسيطة من الحياة البغدادية المتمثلة في العلاقات بين الناس والبيئة والازقة وما كانت عليه الحياة في الازمان المختلفة وقد أطر روايته باطار السياسة لكنه لم يذهب الى عمقها بل جاءت اشارات منه الى اساليب الحكومات وبعض المظاهر التي تميزت بها، فكانت الحوارات مكثفة ودالة، وقد نجح المؤلف في ان يكتب رواية تجعل القاريء يعيش اجواء بغدادية ممتعة ويفهم ان الثقافة لها دورها الواضح في المجتمع وانها التي تنتصر في النهاية.
&