أحد الشعراء مثيري الجدل في قصيدة الومضة هو الشاعر شوقي مسلماني، اللبناني المولد، الأسترالي الجنسيّة. ساعده مكوثه في سدني ـ أستراليا منذ هجرته اليها في عام 1977 على تفحّص أنواع العيش والثقافة والكتابة وتطوير نظرته للأشياء. نشر حصيلة تجاربه، وهو المولود في بلدة كونين ـ جبل عامل ـ جنوب لبنان عام 1957 في مؤلّفات منها شعراً: "أوراق العزلة" ـ 1995، "حيث الذئب" ـ 2002، "من نزع وجه الوردة"؟ ـ 2007، "لكلّ مسافة سكّان أصليون" ـ 2009، "محور مائل" ـ 2011، "قبل الموجة التالية" ـ 2012. كما صدر له في النثر: "أحمُرة وحُمُرات" ـ 2010. وفي الأدب الشعبي له: "كونين لطائف وطرائف" ـ 2013. كما ترجم العديد من القصائد لشعراء أستراليين نُشرت تباعاً في جريدة النهار البيروتية. وسيعرف شوقي شهرة إبداعية لأنّه بحسب رأيي أنتج إبداعاً حين أدخل بنيوية الومضة في القصيدة.
وهكذا سألقي نظرة سريعة على تجربة قصيدة الومضة عبر مساراتها المعرفية ودلالاتها الإبداعية لدى الشاعر شوقي مسلماني من خلال ديوانه "أوراق العزلة ـ 1995": 1"الزمن المعرفي" ويشتمل على القصائد التالية: "غبار ص9"، "دخان ص5"، "موتى ص12"، "مجنون "ص15"، "حين استفاقوا ص16"،& "ليل ص23"، "غائبون ص33"، "عشبة أخرى ص38"، "جماعة ص"42، "الغائبة ص51"، "قالوا ص 57". ثمّ : 2"الزمن المعرفي المكاني" ويشتمل على: "مدن ص٧"، "مقبرة ص22"، "حجر ص32"، "رحيل ص41"، "كونين ص48"، "بيروت ص52". ثمّ: 3"الزمان والتاريخ المعرفيان" ويشتمل على: "بحيرات الرمل ص28"، "أصوات ص39"، "بيل على الرصيف المقابل ص43"، "هات الزجاجة ص45"، "ماذا تريد ص53"، "نافذة على البحر ص50". ثمّ: 4"الزمن المعرفي والصراع الأنسني" ويشمل: "الأكثر ص26"، "أحد يشبهك ص30"، "غرباء ص35"، "ناب ص40"، "رحيل ص41". ثمّ: 5"توصيفات السمات الزمنية والفاعل" وتشمل: "صراخ ص21"، "روبوت ص25"، "لا يلتفت ص27"، "متفائل ص 34"، "عبدالله ص46"، "زاوية ص55". وأخيراً: 6"سمات الوظائف الزمنية ومفعولاتها" وتشمل: "دوائر ص18"، "جراد ص24"، "سياط ص36"، "حصاد ص37" و"عراة ص58".&
إنّ مفهوم قصيدة الومضة ومساراتها المعرفية ودلالاتها الإبداعيّة لدى الشاعر اللبناني شوقي مسلماني أقرب إلى مفهوم مجرّد، أو إلى نموذج فلسفي في التأويل، يقتنص شتات المخيّلة لكلّ هذه الحيثيات، ويؤطّر مساراً مشتركاً أوسع يلملم جاهداً جمعها في نصّ متفرّد موحّد، وبمجرّد إبراز المنظور الإبداعي الدلالي للنموذج الفلسفي في الكتابة المقتحم للقيود الكابحة للإبداع وللعقل ومعارفه فالشاعر في قصيدته ـ الومضة يستشعر مباشرة وجوب وجود الحيّز التعارضي ليس بين الحداثة في النثر والتحديث به بواسطتها وحسب، فالمفهوم الأوّل يتّخذ الشاعر منه طابع بنية فلسفية تضمّ الملامح الفاعلة والمشتركة بين المستويات المذكـورة، منظوراً حياتيّاً إليها من خلال التطلّع العميق للحريّة وللإنسان في صوغ أقرب ما يكون إلى المنظور البنيوي الإشكالي للحريّة المقيّدة والمفتوحة، بينما يكتسي مفهوم آخر تضميني في التحديث الشعري "للومضة الشعرية" توثيق انبثاق التلاقح، مدلولاً جدلياً وتاريخيّاً مَدخلاً، فلا يشير إلى التنوّع المشترك كإلزام بالضرورة بقدر مـا ينوّه إلى قسمات حيويّة تتصارع في جوفه الفلسفي، يريدها أن تقتحم هذه البنيوية المتآكله في العقل العقدي، وأن ترسم آفاقاً جديدة متطلّعة الى تصوّراته التنظيرية وحاجته الى معالجة طابعها التحويلي، ليس بمعزل عن حريّة ومصير الإنسان بل بتمازج التجربة التي كوّرت تطلعات الواقع الإنساني للمستقبل.
وعندما يختار شاعرنا الولوج في تدافع مفردات الإنتقاء للعبارة بأناة في التأمّل وببناء المخيال الفكري يلج إلى هذا الموضوع من الزاوية الأولى الفاحصة والدقيقة في الإلتقاط، وهي زاوية الومضة النثرية الإبداعية للقصيدة، ويجد نفسه ملزماً بضرورة الفكرة المثيرة للجدل بالدلالة والوجوب المشترك، وبصفة المدلول المؤوّل المشترك، متجاوزاً التنميط المهترئ ومظاهر التفاوت والتباين، كما يجد نفسـه ملتزماً التوجّه إلى عدم التمحور على الوقائع ـ الصورة الصمّاء، والأحداث المتكلّسة من مدلولها الوظيفي والتواريخ ـ زمانية المخيال والفواصل بالدلالة، بل مولياً الإهتمام الأكبر للمنحنيات كفلسفة تنطيقية للإشارات، وبيئة خصوبتها المعرفيّة العامّة في كلّ مستوى من المستويات الظاهرة والمستتره مع ولع مكثّف في التبحّر حتى نبضت فيه الدروب توقاً إبداعيّاً عالياً وبكلّ مجهود تأمّلي واستقرائي في لبابة البناء الترميزي لأسلوبيّة كتابة القصيدة ـ الومضة بارتكاز إبداعي.
سأحاول هنا الشروع بمناقشة الأطر العامّة والخاصّة لقصيدة الومضة ومساراتها المعرفيّة ودلالاتها الإبداعية لدى الشاعر محاولاً الجمع بين المنظـور البنيوي الذي يحاول تتبّع السمات الأساسية للقصيدة الومضة وانعكاس المنظور الفلسفي التاريخي الذي يحاول شاعرنا من خلاله متابعة التحوّلات التدريجيّة والإنزياحية أحياناً التي تطال هذه الصفات، وسأحاول من خلال تتبّع تجربة الكتابة لدى الشاعر مسلماني ونموذجه الإبداعي المتوافق لدواوينه المنشورة أن ألحظ تميّزه الأسلوبي بحكمة الخصوبة في ما يخصّ المفردة ودراية التجذير للصوت الإشاراتي واللامكانية بين مستويين في هذه التحوّلات للزمن المعرفي لقصيدة الومضة، ومن جانب المسار المعرفي والدلالات الإبداعيّة الفلسفية، على رغم من تداخل بين هذين الوصفين لنصوص الشاعر. تتميّز قراءة فنّ الزمن المعرفي لقصيدة الومضة عند الشاعر شوقي مسلماني بتصنيف تطوير الإشكال الزمني للمخيال المنطوق وأساليب فواصله الدلالية الجديدة في الزمن المعرفي ووظائف الإنتقال التدريجي من الومضة التأملية إلى فنّ ومضة الكتابة للقصيدة، وخلال دراستي لقصائد الشاعر من ديوانه (أوراق العزلة، 1995): "غبار"، "دخان"، "موتى"، "مجنون"، "حين استفاقوا"،& "ليل"،& "غائبون"، "عشبة أخرى"، "جماعة"، "الغائبة" و"قالوا". هنا المخيال الزمني التقليدي المعرفي للقصيدة بالنسبة اليه يتّسم بتحويلها ومضة للمحة معرفية في زمن كيفي محض، أي يجعل لها مرسوماً تذاتوي متلقّف مسبقاً ناتجَها، فهو يسبغ طابع الإقتراب الى الأشكـال والأشياء من خلال المفردة كمعرفة متنمّطة شعريّاً في الذاكرة زمنيّاً، ولحيّز يستأطر القائم الدلالي للإشارات ويستجلب لكلّ مدلول امتلاء جماليّاً في فنّ الزمن المعرفي للأشياء وتقابلاتـها وتقلّباتها التأويلية بظواهر تناسق فاعليّاتها بحسب صوتها القائم فيها وفرضيات ما قبلها.
سأبدأ بقصيدة "غبار" حيث يؤكّد الشاعر على الصفات البدئية السحرية: "كلّما فتحت عينيّ.." مقدّماً تصوّراً عن الزمن المعرفي، لأنّ الإنسان لديه باعتماده القَبْليّة الزمنية في المعرفة أو أسطرتها يستند إلى نظمه الخاصّ للمعرفة الرمزية والرشدية الإشاريّة من خلال تدبّر تبادلاتها المعرفية وتجاوب سحريتها مع متطلّبات محيطه الطقوسية، ومن ثم مركزية الأسطرة في زمنية الفكرة. اهتمّ الشاعر أوّلاً بأهميّة الزمن المعرفي وتحوّلاته ليبيّن وليسوغ كيفية محافظة الوعي الصراعي الانساني على بناء الإطار الأساس، يثيرها بالإحاطة على ما أحتواه، لترسيخها في الكتابة، وعلى كيفية أن الزمن المعرفي البدئي هو منتج للبنى الزمانوية السحرية في إضفائها توليفة تفاعلية القصيدة، وهو الأمر الذي يفسّر وجود أزمنة معرفية ماضوية متشابهة لواقع المصاهرة الحالي مع الزمن المكاني التصوّراتي، على رغم تباين مواقع الجغرفة الزمانية لتلك الماضوية السحريّة مع أشكال وكلمات السلوك والممارسة المتفاعلة: "كلّما فتحتُ عيني \ أصطفّوا أكثر مِنْ عشرة حولي \ يشبهونني جميعاً \ لكنّهم أكثر نحولاً \ اسمك؟ "شوقي" \ اسمك؟ "شوقي"\& في هذه الغرفة الدوّارة أجلسُ في الوسط \ تحاصُرني عيونٌ كثيرة ووجوه صارمة \ لستُ لصّاً، لستم قطّاع طرق \ أملك وحدتي وحصاركم \ هذا الفراغ في يدي \ مشيتُ كلّ الطريق& \ أحمل ذكريات على عجل \ لم ألتفت إلى الوراء \ لم أبك \ فقط تباطأ قلبي \\ وجوهُكم ميّتة \ صفائحُ رصاص \ سنوات غبار".
هنا تركيز لشرارات خاطفة تكشف عن العلاقات التي توجد بين كلّ مكرّر حتى أصبحت موضوعات أساسية في مدخل بنيوي للقصيدة مستهدفاً الكشف عن الأبنية الموحّدة لهذا التكرار: "كلما فتحتُ عينيّ / أصطفّوا أكثر مِنْ عشرة حولي / يشبهونني جميعاً \ لكنّهم أكثر نحولاً / اسمك؟ "شوقي" \ اسمك؟ "شوقي". تتجلّي هذه الأبنية من خلال عملية تحليل الزمن المعرفي في الموحّد المتشابه بالكيفية التي ينبثق بها الفكر اللاواعي الزمني في الوعي المعرفي خلال عملية الاستنباط اللاواعي للمكرّر وللإشاراتية في "عشرة حولي" كترصيف رقمي، والتشابهية في "يشبهوني"، والظاهر والمختفي في المعنى "اسمك؟ "شوقي" \ اسمك؟ "شوقي". هكذا يغدو الكشف عن هذه الأبنية للومضات الخاطفة نوع من أنواع التجميع التحليلي النفسي للومضة الجامعة للقصيدة. يلخّص شاعرنا خلالها آراء الزمن المعرفي في الماضوية المتجدّدة، كأن يثير معنى الزمن المعرفي السحري الذي لا يكمن في العناصر المنعزلة التي تدخل في تكوين الومضة الشعرية بل في الطريقة التي يثب بها تركيب هذه العناصر الزمانية بتوكيد الإشارة والمكان الرمزي الزماني. اللغة هي مجرّد جزء من السحريّة تتجسّد بنقلها إلى عالم التشابه الظاهر ـ المخفي والخامل ـ المتجلّي والساكن ـ المتحرّك، وتظهر في الزمن المعرفي الماضوي – المتجدّد، ومن خلال بعض الخصائص النوعية، وهذه العناصر الجزئية التي يمكن أن توجد فقط فوق المستوى السحري اللغوي تكشف عن ملامح أكثر تعقيداً في مستوى التأويل من تلك التي يمكن أن توجد في أي نوع آخر من التعبير التأويلي للّغة.
والمخيال الزمني لوظائف الإنتقال التدريجي في فنّ الزمن المعرفي إلى فنّ الومضة في القصيدة والتميّز بتحديد تحدّيات نمط معين من الزمن المعرفي& بمنتجه الدلالي لإعمال التأمّل بمعناه التأويلي، أي معرفة شدّة مراسها بصوتيّات الملاحظة والتفعيل التطبيقي والصياغة البعدية: "في هذه الغرفة الدوّارة / أجلسُ في الوسط / تحاصُرني عيونٌ كثيرة ووجوه صارمة". الإسلوبيّة المثلى التي يتمتّع بها الشاعر هنا هي هذه المعرفة في القراءة الزمنية لقصيدة الومضة، وهي تنقيبيّه دؤوبة عن المفردة، وتأمّليه شكّية ديكارتيّة بما أحاط به لتكون لديه خصوصية صياغة نموذج للإشارات الصوتيّة ولزمن معرفي ضمني وظاهر في آن يحمل منظوراً وعناية بما خفّ وزنه وأرتقت قيمته. وهذا النمط من قراءة الزمن المعرفي يُدجّن ثنائية& في أساسها قراءة مكامن المكان وتحميل ما يجب من مفردات من حيث أن الزمن المعرفي لقصيدة الومضة استجابة للمكامن اللغوية وللتأويل الصوتي خضوعا لمتطلّباتـها الإبداعية دلالياً، والمخيال الزمني المعرفي يتجسّد عند الشاعر ليس بمجرّد التقاط التأمّل الإشاراتي عبر إرادة الإنسان فحسب، بل باستكشاف ما هو محدّد للمكان نمطاً معرفياً صوتياً مطلوباً للمنطوق أيضاً: "لستُ لصّاً / لستم قطّاع طرق/ أملك وحدتي وحصاركم/ هذا الفراغ في يدي". وهكذا تحديات تطاوع صراعاً عبر الإشارات، وتطاوع صوت الاشياء بالكلمات بالضرورة، ليكون لدى الشاعر هذا الصراع بين الخضوع للإشارات وبين ما تقتضيه الكتابة الإبداعية من حتمية.
وضمن الزمن المعرفي هنا يتكشّف المنظور الزمني المعرفي المكاني، ما يجعل من القصيدة تكتسب منظورَ منهـج متفحّص بإشارة الحركة ـ السكون، وصراعات الذاكرة مع قرائنها: "مشيت كلّ الطريق / أحمل ذكريات على عجل / لم ألتفت إلى الوراء \ لم أبك / فقط تباطأ قلبي". فالمنهج يتقاذف القصيدة من حيث هو منهج تنظيم زماني يحقّب عملية إبداعية لمكانية زمن النصّ معرفـيّاً بطريقة تشكيل القصيدة في التناول التأويلي، وتتّخذ من المؤدّى تحقيقاً لتناصّات مخيالية، ولتجديد التحاذي في المكان لزمان معرفي مكاني محدّد في ذاكرة الشاعر يقودنا من خلاله إلى اكتساب القدرة على صناعة المخيال التراكمي، ولتأويل العبارة وصياغة الحضور الصوتي على تملّك الأشياء لأجل التأويل الدلالي لمساراته، وعليه يفضح التناصّات النابضة في قراءة تناصّات الذاكرة الدفينة بزمن معرفي يقظ يقود بالضرورة إلى إضفاء طابع جمالي يطول امتداده متلوّناً في المدلول على أسس الزمان المعرفي لكلمات فنّ قصيدة الومضة.

&