يحكى أن قرية كانت تنام بين الماء و الشجر،& تعتاش على ما تنتج من طيب الثمر، من برتقال و رمان و تمر، اسمها بهرز بأرض العراق كان عند مدخل السوق فيها مقهى اسمه مقهى السعيدي& على اسم مالكها غالب السعيدي...و لما كان الخير في حينها وفيرا و الكدح قليلا، عمَرت المقاهي بالرواد الذين تبادلوا الحديث عن الغلة و عن الجن و السعالي و طيش الشباب الغابر و هم يشربون الشاي..
أمَّ الشيوخ المقاهي منذ بواكير الصباح بعد ان ادوا صلاة الفجر في الجامع المجاور قبل أن يتوارد إليها ضحىً و تباعاً الشبابُ، و كانت المقهى تقدم لروادها الشاي اولا ثم القهوة الشكرلي وشاي الليمون المجفف. لكن شيوخ القرية كانوا يفضلون شرب الشاي الأسود و كانوا خبراء بشأنه يعيبون أي نقصٍ فيه. جهد غالب السعيدي أن يشترى افضل الانواع منه، خشنا و ناعما، يوم كان يصل اليهم في صناديق من الخشب الرقيق المفضض من سيلان التي كانت من أعمال بلاد الهند و قد دُفن في شايه فيلٌ صغير من الأبنوس الاسود& كهديةٍ، فخلط منه انواعا متعددة و حرص أن يطيبه بالهيل مرة و بنبتة "العطرة" مرة اخرى، كل هذا حتى يكون الشاي موضع رضا شيوخ القرية، كيف لا و الرواد مصدرُ رزقه الثابت و معيلُه و عائلته، فعمّرتِ المقهى بالرواد و خصوصا من الذواقة و طارت شهرة شايه و غطت على بقية المقاهي فغبطه اصحاب المقاهي الاخرى على الاطراء.&
على أن الشاي لم يكن بالنسبة للشيوخ متعلقا بخامته و جودتها و انما بطريقة تحضيره ، فبات الشاي لديهم "فائتا" أو "محروقا" اذا ما ترك اطول من اللازم على النار أو أنه يكون "فطيرا" اذا لم يأخذ حده من الحرارة فتكون النار اما قوية جدا حتى تفوح منه رائحة احتراق او منطفئة باردة فلا ينضج الشاي و يصبح سيء المذاق و لم يكن طبخ الشاي و تحضيره بالامر الهين فكان يحضر على الفحم او على خشب التوت الذي يشق جذع الفحل منه الى قطع صغيرة بواسطة مطرقة و ازاميل و تتم مداورته من "قوري" الى "قوري" بين القديم و الجديد حتى يستقيم الطعم.
و هكذا كان الشاي الجيد لدى الشيوخ لحظةً عابرة حرجةً كالوميض الخاطف تجعله جيدا بين سيئين،& ففي هذه اللحظة الحاسمة من عمر الشاي المحضر كان على غالب السعيدي ان يقدمه لشيوخ القرية النافذين. اما الشباب الذي يتوافدون ضحىً على المقهى و يكون عندها وشلٌ من شيوخ صلاة الفجر ما زال متربعا على تخوت المقهى، فيسمعون بلا اكتراث نقدهم لانواع الشاي، هؤلاء لم يكن امرهم يهم السعيدي فليس لديهم خبرة بنكهة الشاي و لا يكترثون كثيرا لدقة الاختيار فهم رواد عابرون سرعان من ما ينطلقون الى الساحة القريبة من المقبرة للعب كرة القدم أو الوقوف عند الطريق المؤدي للنهر لمغازلة الملايات، و هم انما كانوا يشربون الشاي لحلاوته، فيصرف عليهم السعيدي ما كان الشيوخ لا يقبلون به بعد أن يزيد من حلاوته، الا واحدا اقض مضجع السعيدي و سمم جميل ايامه.
كان جميل، و هذا اسم صاحبنا، قد سمع من الشيوخ ان الشاي لا يستقيم طعمة قبل النضج و لا بعده بقليل فنصب من نفسه هو الآخر خبيرا بشؤون الشاي، رغم انه لم يكن يعرف من الامر شيئا، و كان كلما قدم السعيدي له شايا من خيرة ما لديه تظاهر جليل بأنه يتذوقه ليحكم عليه و ما يلبث ان يصيح "محروك!" أو "فطير!" و يعاف شيئا من الشاي في القدح ليدعم مصداقيته.
و مرت الايام و لم يعجب جليلاً ايُّ شايٍ ، حتى اغتم السعيدي كثيرا و صار يعود إلى بيته وعائلته حزين الوجه فيفضي لهم بتعس ايامه و كيف انه بات موضع تندر لكل& من هب و دب في انه لا يحسن عمل الشاي و كاد ان يهجر المقهى، يبيعه او يأجره ، لما سببه من هم و غم حتى قيض الله له دعدوشا.
كان دعدوش قد عمل في العديد من المقاهي في بغداد بعد أن غادر القرية و اعادته الايام ، ككل المغادرين، اليها و كان يروي لهم الكثير عن المدينة الكبيرة، رواياتٍ كانت لو صدقت لجعلت من دعدوش دعدوشا بحق، فقد خبر كل الاعيب المدينة الكبيرة التي يأم مقاهيها فيضٌ من الناس من مختلف المشارب و المهن و العديد من الاذواق و المتنافرِ من الاخلاق.
بعد أن استقر على ان يعمل لديه روى غالب السعيدي لدعدوش، الذي استقصى منه سبب همه و غمه، قصةَ صاحبنا جليل الذي طال سمعتَه و سمم ايامه و اقسم السعيدي لدعدوش على انه عمل لجليل اطيب الشاي مذاقا من الانواع التي لا تعاب و التي اشاد بها شيوخ القرية على ما هم علية من دقيق الاحكام و نافذ الآراء و لكنه في كل مرة كان يبصق الشاي في القدح و يعيب فيه امرا كذا او كذا...
سهم دعدوش برهة و قال :
اتركها لي!
في احد الايام الرائقة أختلف جليل الى المقهى و القى نظرة عابسة على الرواد و القى التحية من علٍ فرد عليه الجميع بأدبهم المعهود. جلس مديرا ظهره للجميع متطلعا الى المارة الذاهبين و الآيبين من السوق و اليه فقد درج، اضافة الى اداعاته الفارغة بالمعرفة و التفوق، على ازدراء الكل.&
سأل دعدوش& جليلا عما يطلبه فأشار عليه بشايٍ و اضاف كعادته، كما بأمر عسكري، ان يجعله مضبوطا.
أجابه دعدوش: تأمر استاد!
في عمق المقهى حيث يقع الآوجاغ و صفيحة الماء الذي يغلي و الشاي الذي يحضر على الجمر و السماور الذي يزين المكان جاء الوقت لدعدوش، و قد اولاه جليلٌ ظهره، لكي يعمل عملته و أن يشهد عليها شهودا جعلهم يتحلقون حول الأوجاغ.
أخذ دعدوش قدح شايٍ فارغا و قام و هم يغمز بعينية للمتحلقين حول الاوجاغ، فوضع فيه قليلا من القهوة و قليلا من ماء السد المتسخ الذي خصص لغسل الاقداح و الصحون ثم وضع القليل من شاي الليمون و قليلا من الشاي الأسود البائت و ختمه بثلاث ملاعق من السكر و سار به امام الشهود و دون ان يترك لجليل أن يرى ما فعل. و قبل ان يضع الشاي امام جليل خاطبه دعدوش قائلا:
لقد سمعت عنك الكثير و عن خبرتك التي لا تجارى في تذوق الشاي و كيف ان لا احد من اسطوات القرية قد صنع لك الشاي الذي يليق بمقامك، انا عملت في هذا المقهى حديثا و همي الاول ارضاؤك .. و الله و الله لو انك في بغداد و عرفوا بحسك و ذوقك المرهف لكانت الشركة المستوردة للشاي جعلتك خبيرا لديها ... هذا الشاي مصنوع خصيصا لذوقك الحساس..
عندها وضع دعدوش الشاي امام جليل
ابتسم جليل بكل رضا عندما استمع للاطراء و هو امر قلما شوهد عليه، قلب السكر& و مد يده و تناول قدح الشاي و رشف منه رشفة و جعل نفسه يتذوق بتأنٍ و توقف برهة صامتا و ضاقت عيناه تأملا و تدقيقا ثم صرخ:
هذا هو الشاي الذي كنت ابحث عنه! سلمت يداك ! أخيرا بعث الله لنا من يعرف كيف يصنع شايا...

كتب ببرلين من ارض المانيا في الحادي و الثلاثين من شهر آب اللهاب في العام الخامس عشر بعد الألفين من شاهد عيان اسمه
منير العبيدي