ترجمة حسّونة المصباحي
&
يُجْمع النقاد على أنّ برتولد برخت المولود في مدينة اوغسبورغ (جنوب ألمانيا) في العاشر من شهر فيراير -شباط 1898 ، والمتوفي في برلين في الرابع عشر من شهر أغسطس -آب 1956، هو واحد من أعظم الشعراء والكتاب المسرحيين في النصف الأول من القرن العشرين. وقبل بلوغه سنّ السادسة والعشرين، كان قد تزوج ثلاث مرات، وأنجب ثلاثة أطفال، وكتب العديد من القصائد والمسرحيّات التي خوّلت له أن يتبوّأ مكانة بارزة في الأدب الألماني. ورغم أفكاره اليسارية، فإنّ أعماله تبرز بشكل واضح تأثره بغوته.
وينتسب برتولد برخت إلى عائلة متواضعة نسبيّا. فقد كان والده يعمل ورّاقا، ثم لم يلبث أن أصبح مديرا عامّا للشركة التي كان يعمل فيها. وخلال فترة المراهقة، احتكّ برتولد برخت بالعمّال، مُنْجذبا إلى الأفكار الماركسيّة. وفي المقاهي التي كان يرتادها في ميونيخ في سنوات شبابه الأولى، كان يجاهر بعدائه للبورجوازية، في حين كان هيتلر على بعد بضعة أمتار منه، يبثّ أفكاره النازيّة. وعندما أصدر عام 1920، قصيدته:”أسطورة الجنديّ المقتول"، وضعه النازيّون على لوائحهم السوداء. وفي مطلع الثمانينات من القرن الماضي، بعد أن صعد هيتلر إلى السلطة، فرّ برتولد برخت إلى الدانمارك، ثم إلى فنلندا، ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية. في عام 1950، عاد إلى بلاده ليتسقرّ في ما كان يسمى بألمانيا الديمقراطيّة. وظل هناك إلى أن مات في التاريخ المذكور أنفا.

-1: من الفقير ب.ب

1
أنا برتولد برخت من "الغابات السوداء".
أمّي حملتني إلى المدن عندما كنت لا أزال في بطنها.
وبرد الغابات الذي فيّ سيظلّ في جسدي
حتى مماتي.

2

أنا في بيتي عندما أكون في مدينة الإسفلت.
ومنذ الأبد أنا مزوّد بأسرار الموتى،
وبالصحف، والتّبغ، وبماء الحياة،
ودائما مرتاب، ومحبّ للتيه حسب هواي
وفي النهاية أنا راض ومنبسط.

3
أنا لطيف مع الناس، ومثلهم أفعل. أضع قبّعة صلبة
وأقول:” إنهم حيوانات ذات رائحة خاصّة".
ثم أضيف:”ليس مهما ...أنا واحد منهم".

4
على كرسيّي القلاّب أُجلس أحيانا
قبل منتصف النهار إمرأتين أو ثلاثا.
أنظر إليهنّ دون أن أشغل ذهني، وأقول لهن:
أنا واحد يمكن أن تعوّلن عليه

5
في المساء أجمع عندي في البيت بعض الرجال
ونتحدث مخاطبين بعضنا البعض ب"جانتلمان".
وهم يضعون أرجلهم على الطاولة ويعلنون:
“بالنسبة لنا ستكون الأمور أفضل".
أما أنا فلا أسأل أبدا:”متى سيكون ذلك؟"

-2:هجرة الشعراء

لم يكن لهوميروس بيت،
وكان على دانتي أن يترك البيت الذي كان يسكنه،
ولي -بو وتو-فو تشرّدا وسط الحروب الأهلية
التي التهمت ثلاثة ملايين من بني آدم.
ولإرعاب أوريبيدوس، هدّدوه بالمحاكمة ،
وعندما كان شكسبير يحتضر، وضعوا يدا على فمه.
ولم يكن شيطان الشعر هو وحده الذي كان يبحث عن
فرانسوا فيّون وإنما الشرطة أيضا.
ومفعما باسم الحبيبة إنطلق لوكراتوس إلى المنفى ،
وهذا ما فعله هاينه أيضا، ومثلهم لجأ
برتولد برخت إلى بيت ريفيّ في الدانمارك.

-3:
1
حقّا أن أعيش في أزمن حالكة!
بلا معنى الكلمات البريئة. الجبين الصقيل يعني عد الإحساس.
والذي يضحك، فلأن الخبر المرعب لم يصله بعد.

يا لها من أزمن هذه التي يصبح فيها الكلام عن
الأشجار بمثابة الجريمة
ذلك أنه لا بدّ أن نسكت عن الكثير من الآثام الكبيرة!
والذي يقطع هناك الشارع في هدوء، فلأنّ
أصدقاءه الذين يعيشون في الشقاء
لن يكون باستطاعتهم الإلتحاق به.
صحيح: أنا أكسب قوتي يومي. لكن صدقوني.
هذامحض صدفة.فلا شيء ممّا أفعله يُبيح ذلك.


بالصدفة أنقذت(ولو تنكر لي الحظّ لكنت ضعت)
قولون لي:" كلْ واشربْ، وكن سعيدا أن يكون لك ما يسمح لك بذلك".
لكن كيف لي أن آكل وأشرب
عندما أفتكّ من الجائع ما أنا أسدّ به الرمق،
وحين يكون كأس الماء غير متوفر للظمآن؟
مع ذلك أنا آكل وأشرب.
أريد أن أكون عاقلا أيضا.
وفي الكتب القديمة مكتوب ما معنى أن يكون الإنسان عاقلا:
أن يبتعد عن نزاعات العالم، ومن خوف
يمضي الوقت القليل المسموح له به،
وأن ينجح في عدم إستعمال العنف،
وأن يواجه الشرّ بالخير،
وأن يكبح جماح رغباته، وينساها،
هذا ما نعني بالإنسان العاقل.
كل هذا أريده.
حقّا أنا أعيش في أزمنة حالكة!

2
جئت إلى المدن في أزمنة الفوضى
عندما كان الجوع مهيمنا.
ومشيت بين الناس في زمن الثورة
وثرت معهم. وهكذا مرّ الوقت الذي
وُهب لي على الأرض.

قوتي تناولته بين المعارك،
وكنت أتمدّد لكي أنام بين القتلة،
ولم أنشغل كثيرا بالحب،
والطبيعة تأملتها من دون صبر.
وهكذا مرّ الوقت الذي وُهب لي على الأرض.
وفي زمني كانت الطرقات تُفضي إلى المستنقعات.
وكانت اللغة تفضح وجود للجلاّد.
كانت قدراتيمحدودة. لكن من دوني،كان يمكن أن
يكون المستبدون أشدّ ضراوة ووحشيّة. وهذا ما كنت أتمناه.
وهكذا اقضى الوقت الذي وُهب لي على الأرض.
3
أنتم يا من ستنبثقون من الموج
حيث سنغرق نحن فكروا عندما ستتحدثون عن
ضعفنا في الأزمنة الحالكة التي سوف تخرجون منها.
ذلك أننا كنّا نمضي مغيّرين البلدان مثلما تُغيّر الأحذية،
كنا نمضي عبر صراع الطبقات يائسين،
إذ لم يكن هناك سوى الظلم، ولا ثورات.
مع ذلك كنا نعرف:حتى كراهيّة الخساسة
تشوّه الملامح.
حتى الغضب ضدّ الظلم يُفسد نغْمَةَ الصوت.
آه! نحن الذين كنّا نريد أن نهيّء الفضاء
لعالم جميل، لم نكن لطيفين...
لكن أنتم، عند الوصول إلى هناك،
ليكن الإنسان أخا لأخيه الإنسان،
فكروا فينا، بتسامح.

-4: الفتاة التي غرقت.

بعد أن غرقت،عندما كانت تنزل ذاهبة
من الجداول إلى الأنهار الكبيرة،
عندئذ بدت السماء غريبة جدّا
كما لو أنها كانت ترغب في تهدئة الجثة.
عليها طحالب وفوقسات،
لذا كانت تصبح ثقيلة شيئا فشيئا،
وكانت الأسماك تمرّ باردة على فخذها. والنباتات
والحشرات كانت تعرقل رحلتها النهائية.
والسماء كانت عند الغروب كما لو أنها من دخان
وعند الليل، تمسك بالنور معلقا في الفضاء،
بفضل النجوم، لكن مبكرا كانت صافية
لكي تظل مضيئة من الصباح حتى المساء
وعندما في المياه تعفّن جسدها تماما،
حدث أن نساها الله تماما،
وجهها، يداها، وفي النهاية شعرها.
عندئذ أصبحت جثة بين جثث أخرى.