&

تأسس الكاتب الهولاندي جان جاكوب سلوروف شاعرا حتى أن هناك اتجاها في تاريخ الأدب الهولندي يصوره باعتباره شاعر هولندا الذي لم يلق التقدير، فسلوروف يتمتع في أعماله القصصية والروائية بحس شعري رومانسي الشهيرة، وربما يتجلى ذلك في روايته الأولى الشهيرة "المملكة المحرمة"، وهي الرواية التي كتبها بعد مجموعتان قصصيتان، وفيها يحكي قصة مغامرة متعددة الطبقات، تتحرّك فيما بين الشرق والغرب وعبر العصور، كما تجمع فيما يبدو بين حياتين غير متصلتين، الأولى لمشغّل اللاسلكي في القرن العشرين، والثانية لحياة لويس كاموس شاعر القرن السادس عشر المنفي، إذ يقوم كلٌ منهما برحلته الخاصة الخطرة إلى مدينة "ماكاو" الموقع التجاري البرتغالي، وخلال الرواية، يستدرج سولوروف القارئ إلى عالمٍ من التغريب والخيانة، حيث يختلط الماضي بالحاضر في احتمالية لا يفارقها الموت أبدًا.
الرواية التي أصدرتها دار آفاق للنشر والتوزيع بترجمة مصطفى محمود، ظهرت عام 1932 في تسعة أجزاء مسلسلة في مجلة "فورم" وصدرت بعدها مباشرة في شكل كتاب، ووفقا لدراسة أعدتها الناقدة جان فينوليت من جامعة لندن وأرفقت بنهاية الترجمة فإن الرواية"من أكثر الروايات المكتوبة حيوية وتجريبية في اللغة الهولندية، جرت أحداثها في كل من القرنين السادس عشر والعشرين، وهي إلى حد ما مثل "أورلاندو" لفرجينيا وولف في رحلتها خلال الزمن، يصاحبها تحول الشخصية الأساسية، لكن في حين تحول "أورلاندو" من رجل إلى امرأة على مر القرون، فإن شخصية سلوروف، عامل تشغيل لاسلكي من القرن العشرين، يصبح الشاعر البرتغالي كاموس من القرن السادس عشر، وفي تجاهل لمعايير الرواية الواقعية، تؤسس "المملكة المحرمة" لنفسها باعتبارها رواية حداثية".
ولفتت فينوليت إلى أن التقنيات السردية التي استخدمها سلوروف لم تستخدم أبدا في الأدب الهولندي، وقال "وجدها بعض نقاد الأدب تمثل تحديا كبيرا، ولم يسمح سلوروف لنفسه أن يتقوقع في نطاق توقعات قرائه، بل أربكهم عند كل منعطف، وفي النهاية أخفق في توصيل الكتابة التاريخية الموعودة في مقدمته عن المملكة المحرمة التي تسرد تأسيس مستعمرة ماكاو البرتغالية في القرن السادس عشر أو بالأحرى اعترضها بالكثير من أحداث السرديات الأخرى. خذ الفصل الأول على سبيل المثال تجري أحداثه في القرن السادس عشر أيضا، على الرغم من أن موقعها هو الوطن البرتغالي، ويتحول السرد إلى الخلف وإلى الأمام فيما بين كاموس باعتباره الراوي وشخص راو ثالث، حيث يربط ما بين نفي الشاعر من البرتغال بسبب حبه لبنت الملك المخطوبة، ولا يجد القراء أي فرصة ليتوصلوا إلى علاقة مريحة مع النص التالي.
ورأت أنه على الرغم من أن قصة كاموس تندمج أخيرا مع قصة تأسيس المستعمرة، حيث يتحول قصر كاموس في المنفى إلى أن يكون ماكاو، لكن في الفصل السادس يقدم قصة جديدة تحطم في الوقت نفسه الاطار الزمني، إنها تجري في القرن العشرين، يرويها الشخص الأول بشخصية جديدة، مطلوب من القارئ أن يصدق، أو ربما يجبر نفسه على التصديق ـ بأن مشغل اللاسلكي بكيفية ما يستمع إلى كابوس، بينما شخصية القرن السادس عشر "تستوطن" بدورها في شخصية القرن العشرين.
وأشارت فينوليت إلى أن تجربة سلوروف تظهر مع زمن السرد في البداية، لتشمل سردين غير مترابطين منفصلين، لكنها تتحرك في الحقيقة ناحية الاتصال عبر الزمن، فيما بين الشخصيات الرئيسية في كل سرد، وقالت "إن الإطار الزمني المزدوج، والطريقة التي تأتي بالتعبير من خلال الشخصيات تثير أسئلة حول كلا من إدراك الزمن والطريقة التي يتمثل بها الزمن بالطريقة التقليدية في الرواية الواقعية".
وأكدت فينوليت أن رواية "المملكة المحرمة" أكبر بكثير من كونها خبرة حداثية بالزمن والسرد، فهي رواية مغامرة عن الروح الرائدة عند تلك الحملات الأوروبية المبكرة لاكتشاف أراض جديدة، وطرق جديدة لإنتاج الثروة من أجل هؤلاء الذين أرسلوهم في رحلتهم، إنها أيضا رواية عن المنبوذ سواء كان الشاعر أو البحار، الرجل المنفي من العالم المعروف الذي نشأ فيه، إنه رحال يحن إلى السعادة، يقع في غرام امرأة جميلة "ابنة الملك"، بعيدة المنال، ربما تميل إليه، لكن ظروفه تحرم عليه الاقتراب. رومانسي حديث يقاسي من المشاعر العميقة والمعاناة، لكن الرواية تدعو أيضاً إلى التأمل في المشروع الاستعماري، والعنف الذي ينطوي عليه، وبينما يكون التركيز الفوري في الرواية على الاغتراب الفردي في عالم عدواني، فإن تصويرها للكولونيالية ونظرتها السلبية تجاه الثقافة الأوروبية الراسخة، يمنحها مسحة سياسية.
وقالت "تجد الشخصيتان الأساسيتان نفسيهما على الجانب الآخر من العالم الذي ولدا فيه، فالنفي فقط ليس من بلد الميلاد، لكن أيضا من الحضارة الأوروبية، لكن بينما يكون لدى كاموس ومشغل لاسلكي السفينة قدر كبير مشترك باعتبارهما ضحيتين فإن خبرتهما، وفوق كل شيء موقفهما من المملكة المحرمة في الصين يضعهما منفصلين عن بعضهما البعض. في ماكاو، كاموس هو ضحية المعايير الاجتماعية لكل من الوطن والمستعمرة: محروم من حريته يتعرض للتعذيب على يد مواطنيه ويجبر على الانضمام للبعثة المحتومة إلى بكين، وبدلا من أن يجد ملجأ فيما بين المستعمرين يلقى كاموس معاملة قاسية منهم. كذلك مشغل اللاسلكي عن بلد مولده، أيرلندا. يرجع هذا وفق تقديره إلى رفض المجتمع الذي كان يعيش فيه، فهناك شعور بأنه هو وعائلته كانوا مختلفين، ولم يكن معترفا بهم ايرلنديين حقيقيين".
يذكر أن سلوروف، (1898-1936)، في ليوفاردن، العاصمة الإقليمية لـ "فريز لاند" في الجزء الشمالي من هولندا. تلقى تعليمه كطبيب، على الرغم من أنه لم يسلك المسار المهني مطلقا، ودمج سلو، كما كان يعرف أصدقاؤه، الممارسة الطبية مع الكتابة، فيما كان يشكل حياة ترحال قصيرة ومكثفة. ترك وراءه عالم هولندا الصغير ليسافر أولا إلى أوروبا، وفيما بعد إلى الشرق الأقصى، يعمل كطبيب للسفينة على طريق الصين ـ جاوة ـ الصين ـ وأبرزت هذه الترحلات خطا من أبرز خطوط الشعر الهولندي "في قصائدي فقط أستطيع أن أسكن" من قصيدة "المشرد". كانت حساسية الترحال هذه عالية بصورة غير عادية في الزمن الذي كان يكتب فيه سلوروف، فهو يعود بالذاكرة إلى رومانسية القرن التاسع عشر، ويتوقع التحولات الفائقة في عالم اليوم. هناك اتجاه في تاريخ الأدب الهولندي في الثلاثين سنة الأخيرة إلى تصوير جاكوب سلوروف باعتباره شاعرا ـ شاعر هولندا الذي لم يلق التقدير في الحقيقة ـ ليست هذه مقارنة سطحية ـ إنها تاتي من الكتاب نفسه الذي يتأكد تعريفه الذاتي.&
&