وضع صورة والدته في جيبه وتبع رفاقه الجنود وهم يسيرون بين ما خلفته نيرانهم من رفاة ومن حجر، أخذ يسير خلفهم في ذعر مع كل خطوة كان يسمع بكاء طفل ونواح عجوز ودعاء أم، وتحت كل قطعة حجر كانت هناك أصوات ضحكات من أيام جميلة تحتضر، كانت هنا بيوت تحت ظلال جدرانها تنمو زهور الياسمين وتتسلق الأسوار بها تضحك لها الوجوه، كانت هنا أسر تتكاثر وأرواح ووعود، هنا قبل أن تطأ أقدامهم كان هناك مساحة لحياة ونور، كان يسير ورفاقه يضحكون ويتبادلون كلمات النصر وطلقات الفرح تزرع في صدر السماء التي تأبى أن تغسل دماء ضحاياهم وتمحو ذنوبهم، لم يستطع أن يكمل معهم فتركهم لنصرهم وجلس يلملم ذعره فقد كثرت الذنوب، ولم يعد يستطيع أن يقف أمامه انسانيته التي باتت تحت نعله، فيده ملطخه بالدماء وكلما غسلها انسكب فوقها دم جديد، فقد بات القتل أمراً سهلاً لذا أصبح النوم يفر بعيداً عن ذلك الواقع الذي يطوقه ويخنقه.
قبل عدة أعوام كانت هذه المنطقة تحمل وجوه عدة بيوت بسيطة وبنايات تحاول أن ترتفع وحديقة خضراء تجدد نفسها مع تتابع الفصول مقاعدها الخشبية مزدحمة بالناس.. والناس مزدحمون بالاحاديث عن يومياتهم العادية، مدينة صغيرة تضم في قلبها مذاهب و ديانات عدة يلتقي جميعهم بمودة وحب، قلوب أهلها كأبواب بيوتهم مشرعة ترحب بكل جار وحبيب، والنوافذ لا تغلق بالمساء فهناك قمر واحد يرافق الجميع إلى النوم، كان حين يظهر وتصحو الأحلام وترتفع إلى السماء على شكل دعاء وأمنية.
لكن الآن.. أصبحت هذه المدينة لا تحتمل سوى اللون الرمادي، فلا حياة لشيء، سقطت البنايات فوق أهلها، وبقيت انارات الشوارع لا تضيء فقد غيرت وظيفتها وأصبحت كجندي صغير يقف اصطفافاً أمام مرور الطائرات والصواريخ التي تسقط هنا وهناك، أحيانا تأخذ دور انسانياً تترك نفسها ليستند عليها رجل كسر بفقد أهله.. رجل يبكي &كطفل فقد أمه في أحد الطرق وظل دون طريق ودون أم.. أما ذلك فمازال يجلس فوق الحجر كحجر جلس فوق حجر.
سبقوه رفاقه، أما هو فقد ظل عاجزاً لا قدم لديه لتحمله فوق تلك الجثث، ولا يد تقبل منه المساعدة لا ذلك الذي فقد أهله، ولا ذلك الذي سيفقد حياته تحت الأنقاض، فهو يعلم بأنهم لن يثقوا بخائن وطن ومن خان انسانيته، نظر إلى السماء وأخذ يجهش بالبكاء، ولم يأبى ببكائه أحد، ثم أشقت صدره صرخة وكأنه يدرك للتو بأنه سقط بالقاع.
نادى عليه أحد الذين سبقوه، فقام متثاقلاً ليتبعهم وهو في طريقه إليهم استوقفه صوت حياة، بكاء طفل رضيع فكان كطوق نجاة أمل ومخرج من نور، نسي أمر رفاقه أخذ يتبع الصوت حتى وصل، أحجار وأجزاء متبقية من آثار منزل.. بقي منه صوت الطفل الذي ينادي بأن له حق في هذه الحياة، أخذ يساعد نفسه محاولاً اخراج الطفل من تحت أكوام الحجر ليحيى بعمل انساني، أخرجه نفض عنه الغبار وأخذ يمسح على ألمه كي يطهر جزء منه، و ليتطهر بطفولته الملائكية علها تكون طوق حياة.
&