رغم اني درست الادب الفرنسي ،وتعرفت على رموزه الكبيرة في مطلع شبابي،فاني لم اكتشف عمق وروعة اعمال الكتاب الفرنسي لوي فارديناند سيلين(1894-1961) الّا في غربتي في المانيا.وقد يعود ذلك الى ان اساتذة الجامعة كانوا يتحاشون ذكره ،والتعريف به بسبب مواقفه المساندة للنازية،والتي دفع ثمنها ،ولا يزال يدفع ثمنها غاليا الى حد اليوم مثلما هو حال الشاعر والناقد المرموق عزرا باوند.

&
وكان سيلين مولعا بالقطط والكلاب.ولعل قطه "بيبار" من اشهر القطط في الادب الفرنسي الحديث حتى ان فريديريك فيتو خصص له كتابا فيه يروي قصته من اولها الى آخرها.فكما لو انه شخصية من شخصيات سيلين المفضلة.وهو بالفعل كذلك إذ انه يحضر في الكثير من روايته.وكانت البداية في مطلع الحرب العالمية الثانية.ففي حي "مونمارتر" بباريس ،عثر سيلين وزوجته لوسيت على قط كان قد أهمله صاحبه الممثل السينمائي لو فيغان.وكان عمره انذاك سبعة اعوام.وعندما شرع النازيون في الانسحاب من باريس في نهاية عام 1944،فر سيلين بصحبة زوجته وقطه "بيبار" الى المانيا التي كانت مدنها تحترق بفعل القصف المكثف .وفي روايته"شمال" يروي سيلين وقائع هروبه من دون ان يغفل عن ذكر مآثر قطه الوفي النهم للاكل وكثير الاحتجاج.وعندما احتل الحلفاء المانيا ،فر سيلين وزوجته برفقة "بيبار" الى الدانمارك .وهناك كان على صاحب رائعة"سفرة في اخر الليل"أن يمضي سنتين في السجن بتهمة التعامل مع العدو النازي.وفي عام 1958،عاد الى فرنسا من دون قطه "بيبار" الذي توفي في السابع عشر من شهر ابريل-نيسان 1952.وكان انذاك في الثامنة عشرة من عمره.ومن الدانمراك ،جلب سيلين معه كلبة سمّاها "بيسي" كان قد عثر عليها ضائعة في احدى الغابات.وعند وفاتها كتب عنها نصّا مؤثرا للغاية،وفيه كتب يقول:”كنت أريدأن امدّدها على التبن...بعد الفجر بقليل ...لكنها رفضت الطريقة التي مددتها بها...رفضت...كانت ترغب في مكان آخر ...في المكان الأشدّ برودة في البيت وعلى الحصى ...تمددت على أسوا حال...وشرعت تغرغر...كانت النهاية ...لقد قالواذلك...غير اني لم أصدق رغم أن ما قالوه لي كان حقيقة لا تقبل الشك...تمددتْ بآتجاه الذكرى،بآتجاه الشمال ...بآتجاه الدانمراك التي جاءت منها...وكان خطمها بآتجاه الشمال...فهي وفيّة بطريقة ما الى الغابات التي كانت تهرب إليها ،وفيّة أيضا الى الحياة الصعبة التي كانت تحياها.أما غابات"مودون" فلم تكن تعنيها .ماتت بعد حشرجتين...أوثلاث...وكانت قصيرة .آه ...وجد محتشمة ...ومن دون أن تشتكي ...هكذا...وفي وضع بديع للغاية ...فكما لو انها في اوج وثبتها...فارّة ...لكن على الجنب كانت قد آنتهت...الخطم بآتجاه الغابات التي كانت تسرح فيها حرة ...هناك في الأعالي من حيث أتت ...وحيث تألمت ...الله وحده يعلم ذلك".
&
وقد اتقن سيلين فنّ الهجاء فانصرف اليه بنفس الحماس الذي انصرف به لكتابة الرواية .و ونادرون هم الذين يضاهونه في الادب الفرنسي والعالمي في هذا المجال.بجملة واحدة يمكنه ان يجهز على الخصم،ويحطمه ويحوله الا فتات.وهذا ما فعاه مع سارتر الذي وصفه ب"الاعور القميء" ،ومع البير كامو الذي نعته ب"الثور ".ولم يكن رحيما مع كل الذين عادوه، واتهموه بمعاداة السامية،وبالخيانة الوطنية بعد الحرب الكونية الثانية.وقد وجد سيلين لدى اليهود ما يغذي نعراته العدوانية ،وهوسه بالهجاء لذا راح يصب عليهم لعناته متهما اياهم باشعال نيران الحربين الكونيتين،وبالتسبب في الكثير من الفواجع والمصائب الاخرى.وكانت لغته في هجاء اليهود عنيفة،جارفة مثل السيول،ومدمرة مثل الصواعق.لا شيء يقف امامها،ولا شيئ يحد من هيجانها،وعنفها،وقسوتها.وفعل سيلبن بالصينيين مع فعله مع اليهود.ففي حوار اجري معه عام 1960،أي قبل عام واحد من وفاته،حذّر من ما سمّاه ب"الخطر الصيني".وبنبرة تتوافق مع نبرة عتاة اليمين الفرنسي الشوفيني، تحدث عن المهاجرين الذين سيزحفون على اوروبا الغنية وكأنه يتحدث عن الوضع الراهن.وقال في ذلك :”المشكلة ديمغرافية...الحروب وكل هذا ..ومن قبل كانت الاوبئة،والجوائح،والمجاعات تحل الكثير من المشاكل المتصلة بالديمغرافيا اذ كان الناس يموتون باعداد وفيرة ..أما الان فلا اوبئة،ولا جوائح..لقد انتصر عليها الانسان..والمشكلة الحقيقية في الوقت الراهن هي الطعام...وفي هذه اللحظة التي انا اتحدث فيها ،يولد الكثير من الاطفال الصينيين...وهذا امر في غاية الخطورة...ان اسيا قارة جائعة ...واوروبا فزعة ...اليس كذلك؟هذه هي المشكلة ...كل شيئ سوف يفضي الى هيمنة السفلة والاوباش كما يقول نيتشه...وها نحن في هذا الوضع....السفلة والاوباش هم الذين يحكمون الان...والذين سيتحلوننا أراهم يخيمون في العراء في "سيليسي"،وفي "بريسلاو"،وفي المناطق المجاورة ..وسوف يأتي اخرون كثيرون من السهول ومن السباسب ...عصابات وحشود ...وغدا سوف ترونهم يداهمون ابواب باريس عراة جائعين".ولو عاد سيلين اليوم الى الحياة ليشاهد المهاجرين وهو يتدفقون على القارة العجوز من اسيا ومن افريقيا،وليتجول في احياء باريس حيث يكثر المهاجرون ،لضرب كفا بكف ولصرخ قائلا:”لقد كنت على حق غير ان الاوغاد المتشدقون يحقوق الانسان لم ياخذوا بنصيحتي ،ولم يعيروا كلامي اي اهتمام!بل لعلهم اهانونني ورموا بي في السجن”
&
غير ان سيلين لم يكن قاسيا كما يمكن ان تشي بذلك لغته ومواقفه.فكم من مرة اجهش باكيا امام عذاب الانسان او الحيوان.كما انه كان يفقد عزيمته في المواقف الحرجة والصعبة فينهار ويرتبك.وعندما كان في طريقه الى الدانمارك فارا باوراق مزيفة،كان يرجف طوال الوقت.وعند استجوابه من قبل الشرطة الدانماركية،اثر صدور مذكرة اعتقال بشانه بتهمة الخيانة العظمى ،انفجر باكيا.وواصفة حالته وهو في السجن،كتبت صديقة له تقول:”لقد اصبت بصدمة عنيفة عندما ظهر سيلين.فالرجل الذي غادر باريس ،وله ملامح شاب وسيم،وجدته امامي شيخا واهن القوى.والامر الذي صدمني اكثر هو أنه-اي سيلين-كان شديد الخوف امام الحارس.وكان يدخل رأسه بين كتفيه كما لو انه كان يخشى ان يقتل في اية لحظة.وكان احساسي هو انني وجدت نفسي امام حيوان سقط في الفخ".
&