إيلاف / دبي: لا ينام العاشقون، ينهلون من فتات عزيمتهم ما يسد الرمق ويحول دون الانهيار العظيم. الساعة تُشير إلى الموت، لكن عقاربها لا بد أن ترتصف وفق حسابات دقيقة. لا مكان للخطأ أو التسرّع، الحكاية شديدة البساطة والتعقيد، هي سهلنا الممتنع، وفضائنا الرحب نحو خلاص أبديّ من صراع فتّاك بين حتمية الموت وقدسية الحياة.&

العشق حاضر بين الثنايا، تفيض من شقاقه حلاوةٌ ضاقت بها سبل الأرض. ترجّلت، حملت بين راحتيها ما تيّسر من شجون وولَه، سارت القرفصاء على قبر حواء، وعرّجت نحو الجنة بلا طبطاب ولا تفاح.

يسبر هاني نقشبندي أغوار جدليته بعطش بشريّ إلى تلك المعادلة المستحيلة. لا مكان لحياة وموت في إكسير واحد، لكنه كذلك في رحاب العشق وجلجلة الهُيام. يسكن العاشق قبر حبيبته، يداعب شعرها بأصابع قصيدته، يتلو على مسامعها ذاك الإثم الذي يجول في صدره ويكره أن يطّلع عليه الناس. يُراقب رشاقة أظافرها وهدوء مُقلتيها وسكونها الصاخب في حضرة تقليد بليد.

تدرك تمامًا بأنه سينام &إلى &يمينها، يربّت برفق على حدائقها الوارفة، ويهمس في أذن الأرض: "أنا الصريع الذي مشى الهنيهة نحو قدرٍ ينهار أمام إرادة لا تلين".

دقيقٌ وسكّر

يذهب نقشبندي عميقًا في رواية "طبطاب الجنة"، يُجسّد ذاك المخاض المريع في مقبرة تضجّ بثرى حواء، الأم والأنثى والحبيبة، يجمع التفاصيل بدقة متناهية، يطرح القضيتين اللتين شغلتا الإنسان منذ آلاف السنين: الحب والموت. يحاكي اللامعقول عبر مزيج متناسق من المقاربات النفسية والحسيّة، يقارع الأحلام المُجهضة والرغبات المكبوتة، وكل ناظم على خط الرتابة والتقليد.

وطئ الموت بالموت فتفوّق الحب على الحياة والموت، ضمن سياق رهيب يجهد القارئ في تفكيك أبعاده واستنباط مكنوناته، وكل ما يسببه من اختلاجات في العاطفة والفكر، حيث يضع الوجدان الإنساني في مواجهة حقيقية ومباشرة مع فلسفات تقليدية وأعراف لامست اليقين، أو تكاد.

يجلس "سلّومي"، العاشق الولهان، على قبر حبيبته "سلمى" التي ترجّلت فجأة من قطار الحياة. فيما تراقب الجارة "غرسة" الملحمة بعيون مفتوحة. هي متيّمة بعاشق سلمى، لكن الأخير لا يعيرها اهتمامًا، فتصرخ في حضرة مُصابها: "هل تصدقين يا خالتي؟ ما زلت أغار منها حتى وهي تحت التراب. انظري ما يفعل العشق. هكذا أردت له أن يعشقني. أنا أحبه ولا أعلم ما أفعل بحبه، وهو لا يزال جالسًا هناك. هل هو المجنون أم أنا؟ تركته لها عندما كانت حية، فلماذا لا تتركه لي بعد أن ماتت؟».

تدور حوادث الرواية في جدة السعودية، وتحديدًا في مقبرة أم البشرية حواء، حيث يلازم شاب في الثالثة والعشرين من ربيع عمره قبر حبيبته ورقمه 215. بعد أن ماتت سلمى، لم يعد سلّومي يهتم بأيٍ من مغريات الحياة، هو يجلس &إلى &جانب قبرها بصمت وسكون، فيما يجتاح الحزن كل تفصيل من تفاصيل جسده. وحدها «طباب الجنة»، الحلوى الشعبية المصنوعة من الدقيق والسكر المحروق، منّ تواسيه في مصابه الجلل. كيف لا؟ وهي التي أحبتها سلمى بشغف منقطع النظير.

رياضيّات الموت!

يصمم سلّومي على اللحاق بسلمى، يخطط جيدًا لتوقيت الرحيل، يستعين بجارته العاشقة لتنفيذ مآربه، يريد أن ينتحر وأن يسكن القبر عينه، فالقبور في السعودية ليست خاصة بإنسان واحد &إلى &الأبد، بل تفتح مرة تلو أخرى، حيث يدفن ميت جديد في القبر نفسه. يقرر سلّومي تنفيذ خطة غريبة تُمكنه من النزول في قبر سلمى لحظة فتحه. يحصي القبور، ومتوسط عدد الأموات، كي يستطيع تحديد موعد الفتح بدقة، وبالتالي تحديد التاريخ الذي يجب أن يموت فيه.

يلجأ سلّومي في البداية إلى إمام المسجد المجاور طلبًا للمساعدة، لكن الأخير يرفض الخطة جملة وتفصيلًا، معتبرًا أنها ضربٌ من الجنون. لم يعد أمامه سوى "غرسة"، تلك الفتاة التي اكتوت بنار حبه وهي تراقبه صبح مساء من نافذة بيت مطل على المقبرة. كان يصدها ويكبح اندفاعاتها المتتالية للتقرّب منه، لكن ما لبث أن أخبرها بخطته وطلب منها المساعدة. لم تصدّق ما سمعته. كانت تنتظره حبيبًا يحط رحاله في قلبها، فإذا به يطالبها بدفنه في قبر سلمى.

هي رواية لمّاحة أراد الكاتب من خلالها تغليب العاطفة على العقل والمنطق. تحاكي في شكلها ومضمونها ألف معضلة ومعضلة، تأخذك &إلى &حتفك وإلى &ولادتك، تحرّك في كيانك ذاك الشعور المفعم بالجلد الذاتي والانتقام المضاد. تثقل جمجمتك بما تيّسر من الفكرة ونقيضها، من الحب والكره، الوفاء والخيانة، الأمل والضياع. وما تلبث أن تُرديك صريعًا أمام حتمية تحمل في خلاصتها مروحة من الأدلة الدامغة حول علاقة لا تبدو مستحيلة بين ثلاثية الحب والموت والحياة. &

هبط آدم &إلى &الأرض بعد الخضوع للرغبة والإغراء، فيما حاول سلّومي صعود السلّم عينه من مقبرة حواء. ربما أراد الكاتب أن يصل بنا، ولو بشكل موارب، &إلى &هذه الخلاصة. فيما تبدو الفوارق والقواسم جليةً بين تفاحة تضّج بالإثم، وبين «طبطاب» يبحث عبثًا عن الجنة.

الكاتب في سطور

هاني نقشبندي إعلامي وكاتب سعودي، ولد في المدينة المنورة في عام 1963، خريج جامعة الملك عبد العزيز في جدة.&

ينشط منذ عام 1984 في مجال الإعلام، وعمل في عدد من الصحف السعودية. رئس تحرير مجلتي "سيدتي" و"المجلة"، كما شغل منصب نائب رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط، وقدم البرنامج التلفزيوني "حوار مع هاني" عبر قناة دبي.&

صدرت له في عام 2007 رواية "اختلاس" القصيرة التي انتشرت على نطاق واسع في فترة وجيزة، على الرغم من منع نشرها في بعض الدول العربية. أُعيد طبعها باللغة العربية ست مرات، وترجمت إلى الروسية.

كما أصدر رواية "سلام" في عام 2008، ورواية "ليلة واحدة في دبي" في عام 2010، وكتاب بعنوان "يهود تحت المجهر" في عام 1986، و"لغز السعادة" في عام 1990.