&
&
نعلم أن البريطانيين صوّتوا لصالح خروج بلادهم من الإتحاد الأوروبي. إلاّ أن جوليان بارناس، وهو أحد أهم الروائيين راهنا، لا يزال مصرّا على التسمّك ب"أوروبيته" حتى ولو ظل الوحيد على هذا الموقف! وقد يعود ذلك الى تعلقه المبكر بفرنسا تحديدا. فقد كان والداه المدرّسان يأخذان أبناءهما الى بلاد موليير وفلوبير وبودلير. وطفلا عشق جوليان المولود عام 1946، القرى الفرنسية الصغيرة، ومباني البريد، والمطاعم الريفية التي تقدم أطباقا لذيذة. ومبكرا أيضا، آنجذب الى القراءة. لذلك كان يُقْبل على الذهاب الى المكتبات، وينفر من آرتياد الكنائس. وكان جوليان بارناس في الخامسة عشرة من عمره، لما قرأ رواية:”مدام بوفاري" لفلوبير ليجد فيها ما أغراه وشجعه على آلتهام كل روايات صاحبها. وفي ما بعد، وتحديدا في أواسط الثمانينات من القرن الماضي، أصدر جوليان بارناس روايته الأولى :”ببغاء فلوبير" التي حققت له شهرة واسعة لا في بلاده فقط، بل في العديد من البلدان الأوروبية الاخرى. وفي فرنسا نالت هذه الرواية جائزة"ميديسيس" المرموقة. بطل الرواية يدعى غيومري برايتوايت. وهو طبيب أرمل يقرر القيام بجولات في مدينة رُوّان، ومدينة كرواسي الفرنسيتين، وفي العديد من الأماكن الأخرى التي عاش فيها فلوبير سواء في طفولته، أم في شبابه. وكان الهدف من ذلك البحث عن معلومات جديدة تتعلق بكاتبه المفضل. وأثناء البحث، يعاين أن كل واحد المتحفين المخصصين لفلوبير يزعم أنه يمتلك الببغاء الذي يوجد في قصة"قلب ساذج"التي ذكر صاحبها في رسالة وجهها الى صديقته جورج صاند أنه كتبها ليبكي آلاف القراء. ولم تحتوي رواية"ببغاء فلوبير" على أحداث كثيرة، وإنما أرادها جوليان بارناس أن تكون معبرة عن وفائه ل"معلمه" فلوبير. في الآن نفسه، هي دعوة لحب القراءة، وللعودة الى القدامى الذين تركوا آثارا عظيمة ظلت راسخة في الذاكرة الإنسانية.
وفي رواية:”الفتاة التي ترقص" الحائزة على جائزة "بوكر"عام 2011، يتطرق جوليان بارناس الى موضوع الزمن المفقود الذي تتمّ آستعادته من خلال الذاكرة. بطل الرواية الذي يدعى توني وايستي، ر يجد نفسه بعد أن تجاوز سنّ الستين في مواجهة ذكريات ماضيه البعيد الأشدّ إيلاما. ففي سنوات شبابه، أي عندما كان طالبا في الجامعة، عشق فتاة تدعى فيرونيكا كانت لها عينان زرقوان-رماديتان، وكفل مثير، وضحكة تبدو شبيهة بشهقة الحب أثناء الجماع، وإقبال جنوني على الرقص. إلاّ أن فيرونيكا تصدّه عنها لتتعلق بشاب يدعى أدريان. وكان ذلك بمثابة طعنة في قلب توني الذي سارع وهو يحترق بنار الغيرة، الى كتابة رسالة الى فيرونيكا ضمّنها حقده عليها ،وإدانته لأنانيتها وصلفها وخيانتها. وما أن وضع الرسالة في البريد حتى بلغه أنّ غريمه أدريان آنتحر لسبب لا يدريه أحد. مع ذلك لم يتمكن من أن يستعيد علاقة الحب مع فيرونيكا. وبعد بلوغه الستين، وكان يعيش الوحدة والترمل، آلتقى فيرونيكا من جديد، فأعادته الى ماضيه ليجده موسوما بالأخطاء والثقوب. مُعلقا على روايته هذه، قال جوليان بارناس:”رواية"الفتاة التي ترقص" تعكس فترة من حياتي في سنوات الشاب. ففي تلك الفترة كنّا نتوق الى أن نتذوق طعم الحياة الحقيقية المتحررة من كل القيود. وكنا نريد أن يكون هناك معنى لهذه الحياة. وهذا المعنى كنا نعثر عليه لدى كبار الكتاب. وكنا نعتقد أن كلّ رجال السياسة فاسدون. وكنا ننبذ السنوبيزم والمراتب الإجتماعية في بريطانيا، ونأمل في أن نلتقي بفتاة أحلامنا قبل ان نموت".
وفي روايته الجديدة :”صخب العصر" الصادرة مؤخرا في ترجمة فرنسية عن دار "ماركور دو فرانس" ضمن سلسلة"المكتبة العالمية"، يسافر بنا جوليان بارناس بعيدا في الزمان وفي المكان ليأخذنا الى روسيا السوفياتية، وتحديدا الى سنوات الرعب الستاليني التي كانت بمثابة الجحيم بالنسبة للمثقفين والكتاب والفنانين والشعراء. وهو يروي لنا أحداث هذه السنوات من خلال ديميتري شوستاكوفيتش الذي يعدّ من أشهر الموسيقيين الروس في القرن العشرين، ومن أكثرهم شهرة على المستوى العالمي. وقد ولد هذا الموسيقار الذي ينتمي الى عائلة مثقفة عَرَفَ بعض أفرادها معسرات سيبيريا بسبب مناهضتهم للنظام القيصري، في مدينة سنات بطرسبورغ، عام 1906. وما أن بلغ سنّ العشرين حتى أصبح معروفا في الأوساط الفنية والموسيقية في كامل أنحاء روسيا السوفياتية. وفي عام 1934، عرض مكسيم غوركي الخطوط العريضة لما أصبح يسمى ب"الواقعية الإشتراكية" فرحب بها العديد من الكتاب والشعراء والفنانين. أماالبعض منهم من امثال عوسيب ماندالشتام، وأنّا أخماتوفا، وبولغاكوف، فقد رفضوها، متحدّين أجهزة الإرهاب الستاليني. وبسب ذلك، سلطت عليهم عقابات قاسية. فقد توفي ماندالشتام من الجوع والبرد في معسكرات سيبيرياعام 1938. ومُنعت أنا اخماتوفا التي نعتها ستالين ب"عاهرة الشعراء" من نشر أشعارها. وأما الشاعرة ماريانا تسفيتيافا فقد فضلت الإنتحار عام 1941 بعد أن تحولت حياتها الى سلسلة من اللأوجاع والمآسي الأليمة. وقد آعتقد ديميتري شوستاكوفيتش أن الموسيقى يمكن أن "تقول ما لا ترغب الأذن المعادية في سماعه". لذلك واصل تقديم حفلاته الموسيقية في موسكو، وفي بقية المدن الروسية الأخرى. غير أن الرقابة لم تكن غافلة عنه. وفي حفل موسيقي كبير في مسرح "البولشي" عام 1936، وفي حضره ستالين، وكبار شخصيات الحزب الشيوعي البلشفي، قدّم ديميتري شوستاكوفيتش"اوبرا الليدي ماكبث". وفي اليوم التالي، نشرت صحيفة"البرافدا" مقالا ينتقد بحدّة"سلبية" هذه الأوبرا، وفيه يقول كاتبه بإن "الفوضى عَوّضت الموسيقى في هذه الاوبرا التي لم تكن غير ضجيج ونباح وصرير". وكان ذلك المقال اشارة واضحة تعكس إدانة ديميتري، مصنّفة إيّاه ضمن "المثقفين البورجوازيين الصغار الذين يفضلون العيش خارج الواقع والتاريخ". وعلى مدى سنوات طويلة، عاش ديميتري الإقصاء والخوف والتهميش ولم يعد له شيء من الأعتبار إلاّ بعد ذوبان الجليد الستاليني في الستينات من القرن الماضي. وقبل وفاته في موسكو عام 1975، قام ديميتري شوستكوفيتش بجولة في البلدان الأوروبية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، خلالها قدّم حفلات موسيقية حققت له شهرة عالمية واسعة...
واصفا ساعات الرعب التي عاشها ديميتري شوستاكوفيتش، كتب جوليان بارناس يقول:”هم يأتون دائما في قلب الليل. وإذن عوض أن يُجَرّ خارج بيته في بيجاما، أو يُجْبر على آرتداء ثيابه على عجل أمام ميليشيّ هادئ، مُظهرا آحتقاره له، ذهب الى الفراش بكامل ثيابه. وقد نام نوما متقطعا، متصورا أفظع الأشياء. وخوفه كان يمنع زوجته نيتا من النوم هي أيضا. كلّ واحد منهما يظهر أنه نائم لكي يخفي خوفه عن الآخر. ومن كواببيس اليقظة الملحة هو أن تأتي المخابرات لتأخذ "غاليا"(آبنته) وتحملها-إذا ما أسعفها الحظ-الى مأوى لليتامى خاص بأبناء أعداء الدولة. عندئذ سوف يعطونها آسما آخر، وسيصنعون منها مواطنة سوفياتية جديدة نموذجية -زهرة عباد شمس صغيرة رافعة وجهها بآتجاه شمس كبيرة هي ستالين".