يقترح مين شين باي، مؤلف كتاب «رأسمالية المحاسيب في الصين: ديناميات تسوس النظام» إجابات واقعية عن سؤال: كيف منحت لامركزية حقوق السيطرة على ممتلكات الدولة – من دون توضيح قواعد الملكية – مَن يحكمون الصين فرصة ذهبية لتحقيق الثراء، وهي الفرصة الأكبر في التاريخ.

خاص بإيلاف من بيروت: في عام 1989، أدخلت الحركة من أجل الديمقراطية الحزب الشيوعي الصيني في مرحلةٍ من الخمود. ووفقًا لتقارير رسمية، انضم ستة ملايين شخص إلى تظاهرات في 132 مدينة في جميع أنحاء الصين في يوم واحد. ردّة الفعل الفورية التي صدرت عن الحزب فكانت استخدام الجيش – وهو في خدمة الشعب - لسحق التظاهرات بقوة في ساحة تياننمن.


لإعادة كسب ولاء أولئك الذين يمكن أن يستمرّوا في الحكم بإسم الحزب، أنشأ قادة هذا الحزب ظروفًا تتيح للمسؤولين نهب ممتلكات الدولة على جميع المستويات. وهكذا، قُمعت أكبر حركة ديمقراطية في التاريخ بأعظم فرصة للسرقة يشهدها التاريخ البشري.

السيطرة هي مفتاح
يقول مين شين باي، أستاذ الشؤون الحكومية في كلية كليرمونت ماكينا في ولاية كاليفورنيا الأميركية، في كتابه "رأسمالية المحاسيب في الصين: ديناميات تسوس النظام"China’s Crony Capitalism: The Dynamics of Regime Decay (مطبعة جامعة هارفارد. 365 صفحة؛ 35 دولارًا)، إن الصين لم تملك يومًا برنامج خصخصة رسميًا. بدلًا من ذلك، منحت لامركزية حقوق السيطرة على ممتلكات الدولة، من دون توضيح قواعد الملكية، الحكام فرصة الاستفادة إلى أقصى الحدود لاستخراج الثروات من المجتمع. وفُصل بين حقوق السيطرة وحقوق الملكية في الصين، علمًا أنّه إذا كانت الملكية غير مؤكدة، فالسيطرة هي مفتاح المسألة كلها.
يصف بعضهم كتاب باي بكلمتين: "المدمر الصامت". فبتعابير أكثر رصانة وبلغة أكثر هدوءًا، يكشف باي خطورة الفساد المستشري في الصين، مدعمًا عرضه بمجموعة كبيرة من الأدلة يُبرهن من طريقها أن هذا الفساد ما أتى نتيجة جانبية مؤسفة للنمو الاقتصادي السريع، بل للخيارات الاستراتيجية التي اتخذها الحزب، وموضحًا كيف يعمل الفساد على كل مستوى، وكيف ينخر كل قطاع من قطاعات دولة الحزب الواحد، فيخرّب سلطة النظام السياسية.

المحسوبية الرأسمالية
بحسب باي، لا يمكن الحزب أن يخفف من وتيرة "المحسوبية الرأسمالية"، ولا أن يقضي عليها، لأنها شكّلت، منذ عام 1989، أسس احتكار النظام للسلطة، مستنتجًا أن حملة الرئيس الصيني شي جين بينغ لمكافحة الفساد ربما تسرّع في زوال النظام بدلًا من إنقاذه، من خلال بذر الشقاق في صفوف النخبة الحاكمة، في وقت يعزز فيه هذا النظام الكره الشعبي الكبير تجاه الفساد.
استمرت الدولة في إبقاء حقوق الملكية المتبقية في مستوى يشكّل أقلّه نصف صافي ثروة الاقتصاد. ومنذ عام 1978، عندما أطلق دنغ شياو بينغ برنامجه الاقتصادي، حرصت دولة الحزب الواحد حرصًا شديدًا على الاحتفاظ بهذه الحديقة الخلفية المسورة لصالح مسؤوليها ومحاسيبهم.
طوال هذا الوقت، حدث بعض الإصلاح الاقتصادي من دون أي إصلاح سياسي. وهكذا فإن الحزب الشيوعي الصيني، كما يقول باي في كتابه، لا يستطيع حماية مصالحه إلا إذا استخدم مجموعة الأدوات القمعية الكاملة، وهو يستعرض يوميًا استعداده للقيام بذلك متى دعت الحاجة.

مسألة مستحيلة
لا تخضع ممارسة السلطة لأيٍ من الضوابط والتوازنات الخاصة بالديمقراطية الليبرالية. فهيكلية الحكومة الصينية تجعل كبح الفساد أمرًا مستحيلًا؛ إذ هناك نقص في الاستقامة على أعلى مستويات الحزب، كما رأينا في عملية سجن الأعضاء السابقين، من بينهم الرئيس السابق للأمن، تشو يونغ كانغ.
يظهر التعسف في ممارسة السلطة بشكل أوضح في مجال التطوير العقاري، والتعدين، وإعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة. ويتواطأ المسؤولون الفاسدون مع الرؤساء والمرؤوسين، وقد تفشى فسادهم في محافظات الصين كلها، ما حوّل بعض المناطق إلى دويلات مستقلة تحكمها المافيات. لم ينجُ من هذا الفساد إلا القطاعات التنافسية حيث تُعرّف حقوق الملكية على نحو أفضل، كالسلع الاستهلاكية وتصنيع التقانة العالية، ومعظم هذه القطاعات تابعة للقطاع الخاص.
بفضل اللامركزية الواسعة التي تتمتع بها السلطة الإدارية، اكتسب قادة الحزب المحليين سلطة تخصيص رأس المال، وترسية العقود الكبيرة، وتحديد استخدام الأراضي. فانصرف رجال الأعمال المحليون إلى تقديم الرشاوى إلى الزعماء المحليين لتمرير مصالحهم الخاصة. وابتداءً من عام 1994، سُمح للحكومات المحلية بالاحتفاظ بكامل إيرادات مبيعات الأراضي واستخدامها في تمويل مشروعات البنى التحتية.

الرشاوى.. لا الجدارة
لكنّ تراخي الضوابط سمح للمسؤولين الصينيين باستغلال هذه المشروعات للإثراء الشخصي غير المشروع. ففي الواقع، ليست أصول الدولة المجال الوحيد الذي خُصخص، فسلطة الدولة خضعت للخصخصة أيضًا. وكانت التعيينات والترقيات في كل قسم معروضة للبيع مدة ربع قرن. كتب باي: "الرشاوى، لا الجدارة، هي ما يوجه الاختيار". قال الرئيس الصيني شي جين بينغ لجمع من مسؤولي الحزب في 16 أكتوبر 2014: "الفساد في مجال شؤون الموظفين هو مشكلة بارزة، فنظامنا لإدارة الكوادر هو للعرض فقط". وتكشف وثائق المحكمة أن هذه الممارسة ربما طالت وكالات حماية البيئة والشرطة وأجهزة المخابرات السرية والنظام القضائي وأعلى الرتب في القوات المسلحة.
يضيف باي أن الحزب يحقق بنفسه في مكافحة الفساد. إذًا، فالمحاكم تُصادق تلقائيًا على أحكام الحزب على مسؤوليه. وكذلك، يعرض المؤلف الضعف في منظمات التحقيق ويبيّن أن نسبة صغيرة فقط من المسؤولين تتعرّض لعقاب فعلي. ويتابع مشيرًا إلى أن حملة جين بينغ لمكافحة الفساد تتعامل مع أعراض هذا المرض فحسب، لا أسبابه الكامنة.

التهديد القاتل
صار الفساد في الصين سهلًا بسبب التعريف المبهم لحقوق الملكية والسلطة الإدارية المركزية وغياب الضوابط والتوازنات الديمقراطية، كالقضاء المستقل والصحافة الحرة والمنافسة السياسية. ولن يتمّ تقليص الفساد بشكل دائم إلا في حال تمّ تحسين كل هذه النقاط المذكورة. وتأخر الحزب تحت رئاسة جين بينغ في الاعتراف بأن الفساد يشكل تهديدًا قاتلًا للنظام، لكنه، في الوقت نفسه، رفض الإصلاحات التي تُعطي الأمل الوحيد بالعلاج.
وتابع باي في كتابه: "حتى الإطاحة الثورية بالنظام القديم قد لا تسهّل بزوغ فجر الديمقراطية الليبرالية. فمخلفات رأسمالية المحاسيب ستمكّن أولئك الذين صنعوا ثروة هائلة غير مشروعة في ظل النظام القديم من ممارسة نفوذ سياسي قوي في ظل ديمقراطية جديدة مناضلة، أملها في النجاة ضئيلًا".
ويخشى باي أن تبيّن روسيا وأوكرانيا للصين ما يمكن أن يحدث عند الإطاحة بدكتاتورية الحزب الواحد، كما حدث تقريبًا في عام 1989. ولهذه الأسباب كلها، قراءة هذا الكتاب ضرورية لأي شخص يرغب في فهم وضع الصين الراهن، أو التعامل معها على أي مستوى كان، وفي أي مجال كان.