يقدم الناقد أحمد الواصل، بعد عشرة كتب نقدية وآخرها "الكلام مع الريح" (2016)، كتابه النقدي الجديد "المحرم الخليجي: خطاب المسكوت عنه في الغناء وأحواله" (مصر العربية، 2017)، الذي يتوفر قريباً في معرض القاهرة الدولي للكتاب (27 يناير – 9 فبراير 2017)، ليطأ مساحة شائكة بين الثقافي والديني، لتجعله قريباً من محرقة الحسبة في زمن الحضارة العربية الوسيطة ثم مقصلة الرقابة من العصر الحالي التي يواجه بها الفن ويلاته من الفتاوى الاحتسابية والرقابة الإدارية ضد أغنيات في تاريخ الغناء الخليجي وشخصيات ثقافية شهيرة.&
بعد أن أنجز دراسة مائة عام من تاريخ الغناء الخليجي في كتابيه: "سحارة الخليج" (2006)، و"تغني الأرض" (2010)، واقتناص قضايا الهوية العربية والمركزية الغنائية والبطولة الفنية والحضور النسوي في "الرماد والموسيقى" (2009) و"الخروج من المعبد" (2013)، وإنجاز أطروحة عن "الأغنية السياسية في الخليج" (2015) لم تنشر بعد.
يدرس الناقد الواصل في مقدمة الكتاب مجموعة من المدونات الفقهية الممثلة في &كتب "الحسبة والاحتساب" التي تحولت مهاداً لكتب "ذم السماع" من حيث أنها تكرِّس التمايز الطبقي والفئوي عبر التشنيع بالوضاعة والاحتقار للعمل اليدوي الذي يتطلب مهارات وتخصص وقدرات كما أنه من باب كسب الرزق الشريف نحو "الحرف الخسيسة" و"أنحس الطوائف" و"الصنائع الرذلة".
&غير أن بزوغ حقل في الكتابات الفقهية حول "السماع" لم تقم له قائمة إلا بما وصف بعصر "الإرهاب الديني"أي محنة المجتمع العربي في القرن الوسيط فترة حكم الخليفة المتوكل (847 – 861 م) الذي عمَّم في عصره حيث دخلت الحضارة العربية الإسلامية في انحلالها وتفكُّكها الذي انعكس على حقول الثقافة المختلفة لا اللهو أي فنون الأداء بل العلوم النظرية كالفلسفة والطب.
ويعللها – بحسب مقدمة الكتاب- مؤرخو الحضارة العربية الإسلامية نتيجة سببين سياسيين، أولهما، تفكك الخلافة العربية الإسلامية بين إمارات المشرق (العباسية والبويهية..) وإمارات المغرب (الأدارسة والأغالبة..)، وثانيهما، استبداد المرتزقة الأعاجم في الجيش العربي (تسهيل الاحتلال المغولي والمملوكي والعثماني).&
ويضيف الواصل أنه بسبب تمكن الاستعمار الغربي من التغلغل في ثغرات المجتمع العربي الذي أنهكه الاستعمار الشرقي (العثماني حتى مطلع القرن العشرين) واستغل تلك الأبواب المهملة ليشعل حرائق يوهم بأنه للدفء فغدت حريقاً بين الثقافة والدين في جهة ومن أخرى بين قوة التقاليد وأرشيف التاريخ..
حتى لم يعد للمجتمع العربي ذاكرة ليستوعب التراث الثقافي المعنوي والمادي وتشابكه وتداخله بوصفه المعبر عن التجربة البشرية في بعدها الحضاري الشامل.
ومن خلال وصف تاريخي لعصر دخول التسجيلات والأسطوانات في الأسواق الخليجية منذ الربع الأول من القرن العشرين وتوسعها لاحقاً، سواء باستيرادها وأجهزتها وبثها في المقاهي والإذاعات أو بعد افتتاح شركاتها مصانعها وإنتاجها، بوصفها وسيلة التسجيل والتداول لفنون الأداء على رأسها الغناء، جعل الفنون الأدائية تختبر مقدراتها وإمكانياتها في عناصرها التكوينية ووسائلها التعبيرية، وكرس الحالة الوظيفية للفنان من شاعر وملحن ومغن وإيقاعي مع سابق وجود المنتج الفاعل الأول في العملية الإنتاجية عدا أن جعلها عرضة بشكل مباشر إما للتكيف مع المتطلبات التجارية والتسويقية وإما لمواجهة الضغوط السياسية والدينية بين قوة التقاليد وصراخ الإيديولوجيا..
وبروز المغنين الخليجيين الكبار، في العشرينيات والثلاثينينات من القرن العشرين،من خلال الترحال لتسجيل أعمالهم في استوديوهات الهند والعراق ومصر ثم طباعتها في باكستان وألمانيا واليونان وانجلترا ولبنان &ثم أسست الاستوديوهات ومحلات بيعها لاحقاً منتصف الخمسينيات مجايلة لظهور الإذاعات، فبرز كبار المنتجين والشركات التي كرست من سوق الأغنية في الجزيرة العربية مثل طه صبري صاحب "طه فون"، وعلي الصقعبي صاحب "بوزيد فون"، ومحمود الشلبي صاحب "شلبي فون" في الكويت، وسالم راشد الصوري صاحب "سالم فون" في البحرين، وسليمان البصير صاحب "نجدي فون"، وإبراهيم العجيان صاحب "التلفون" وإبراهيم الأسود صاحب الأسود فون، وعبد الله حبيب صاحب "توزيعات الشرق" في السعودية.
ولم تمر مسألة بيع الأسطوانات أو تسجيل الأغنيات بسلام، فقد حظر بث بعض الأغنيات في الإذاعة وألزم المنتج بالتنويه عليها بعبارة "ممنوع إذاعة هذه الأسطوانة في الراديو" ثم إنه تعرَّض بعض المبدعين لحوادث السجن بسبب أغنية مثل: "حبك سباني" (1960) لطلال مداح، و"هبّ الهوى" (1967) لعيد بوسيف التي غناها بشير حمد شنان والحدث الغنائي بوصفه حالة ترفيهية عندما يعرض المجتمع إلى الانفلات يواجه بالضبط الأخلاقي ليس للحدث بذاته وإنما للحالة ومتلقيها.
ويعلق الناقد الواصل بأن المدونات التاريخية خطاب ناطق عما هو مسكوت في المدونات الفقهية، فإذا كانت الأخيرة توظف استراتيجيات التحقير لممارسي اللهو من طبقات الأرقاء عبيداً وجواري، وفئة جنوسية كالخصيان وذوي العاهات، والأقليات كالأرمن والأروام ، بينما تلغي الإنسانية في الموهبة الإلهية، ومهارات التعلم والتثقف، وخبرات الأداء والقول والحركة والحقوق الأساسية في العمل والتكسب ..
ينتقل الناقد الواصل في القسم الأول الذي خصص الفصل الأول من كتابه "المحرم الخليجي" (2017) عن المسكوت عنه في علاقة الدين بالثقافة، فيركز الكتابة على فن التجويد المرتكز على طرائق الغناء العربي من عصر الممالك العربية أواخر وأوائل القرون الميلادية الأولى (مملكة الحضر، الحيرة، الجابية، البتراء)، ويتتبع ذلك من مدونات عربية التي تشير إلى أن اكتمل نضوجه وتحول إلى مصدر إلى التكسب في العصر الفاطمي، وذهب إلى مسألة الصراع بين وظائف الإمامة والآذان، والتنازع الإقليمي بين نجد والحجاز، وغلبة قراءات قرآنية على سواها بتأثير مدارس القراءات المدنية والكوفية، وينتهي إلى مسألة "علمنة التجويد القرآني".&
وأما في الفصل الثاني، والذي عنوانه "محرَّمات الذوق الخليجي: ترويج "ثقافة الانتكاس" الذي يجري دراسة مسحية للصراع ما بين التطرف الديني ضد شخصيات ثقافية بالاغتيال أو بالنفي أو بالاعتداء ممثلة في صورة شعراء وشاعرات من الإقليم النجدي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ممثلة بأسماء كل من حميدان الشويعر وابن لعبون ومويضي البرازية.
ويقرأ عن تناقض التحولات الثقافية في خطاب كل من المفكر عبد الله القصيمي ومنظر التطرف الديني سيد قطب، ويدرس نماذج من الأغنيات وتفاوت الموقف الاجتماعي الذي قبلها والموقف المضاد من المتطرفين دينياً في تشنيعها أنتجتها حناجر كل من طلال مداح وبشير حمد شنان في الستينيات الميلادية، ونماذج أخرى في الثمانينيات الميلادية لكل من خالد الشيخ وعازف الزياني، ويعيد قراءة حوادث تكفير، على نصوص شعرية أو تصاريح صحافية، لكل من عبد الله الرويشد وذكرى وطلال سلامة، ويعيد تحليل الموقف من استعراض "مجنون ليلى" للشاعر قاسم حداد ومرسيل خليفة.
وأما في القسم الثاني يتخذ من نموذجين الأول الشاعر محمد الفهد العيسى الذي عرف باسمه المستعار "الفهد التائه" الذي وضع مجموعة من الأغنيات المكشوفة ولحنها مؤسس الأغنية السعودية في القرن العشرين طارق عبد الحكيم في خمسينيات القرن العشرين، وانتشرت بحناجر طلال مداح ونجاة الصغيرة وسميرة توفيق، ودفعت جيلاً من الشعراء والمغنين السعوديين للنسج على منواله، في مرحلة أطلق عليها الناقد الواصل "صعاليك المدن المهمشة"، ويصف ما آلت إليه تلك التجربة.&
ويتخذ نموذجاً في الفصل الثاني من الجيل الجديد الفنان كلاش، أحد رموز فن الراب السعودي، ويدرس ظاهرة الراب العربي الذي انتشر مع المهاجرين العرب (تونس والجزائر والمغرب) في فرنسا، وعرف في فلسطين ولبنان والأردن ثم في السعودية.&
يركز الناقد الواصل على تتبع تاريخ فن الراب ومحاولة الشباب العرب في بحث عن مرجعية عربية له عبر أدب "المعارضات الشعرية" أو "فن النقائض" ثم فنون قولية عرفت بالمشاركات الثنائية مثل "القلطة" في منطقة الخليج العربي، فن العتابا في الشام.
ويكشف عن الجذور الاجتماعية التي أنتجت تلك المواضيع الحادة التي يطلقها ويخوضها شباب الراب السعودي بتحليل التكوين الاجتماعي لمدينة جدة، ويتنبه إلى توظيف هذا الفن للتعبير عن قضايا الرأي العام بمواضيع الفساد المالي والإداري، والعنصرية والتهميش، وهو ما تمثله نماذج أغنيات كلاش .&
الجدير ذكره أنه &صدرت للناقد أحمد الواصل خمس مجموعات شعرية (2002-2011)، وثلاث روايات &في طبعات عدة "سورة الرياض" (2007) و"وردة وكابتشينو" (2011)، وآخرها "أيام هدى" (2015)، ومجموعة قصصية "قميص جامعة الدول" (2012)، وعشرة كتب نقدية (2003-2017) في طبعات عدة، وأشهرها "سحارة الخليج" (2006)، و"تغني الأرض" (2010)، والرماد والموسيقى (2011)، و"ما وراء الوجه" (2012)، و"الخروج من المعبد" (2013)، و"الفنون الأدائية والمستقبل" (2015)، و"الكلام مع الريح" (2016).
&