تدور فكرة كتاب "ديني ودين الناس" للكاتبة والناقدة هبة شريف حول دور الدين في حياة المصريين وتحوله من حالة ثورية إلى حالة استسلام بالقضاء والقدر والمكتوب، وكيف تُفرض في الوقت نفسه حالة من التدين السلبي من خلال تعبيرات ثقافية في البرامج التليفزيونية والجرائد والكتب والأفلام والمسلسلات والحضرات الصوفية. وكيف يقاوم بعض المصريين كل هذا، وكيف يعبرون عن مقاومتهم في تعبيرات ثقافية مضادة للسلطة السياسية أو الدينية. ويهتم أيضًا بالبحث في أسباب عدم اختفاء الدين من حياة المصريين رغم دعاوى العلمانية والحداثة منذ القرن التاسع عشر، ورغم المحاولات الدؤوبة من أجل تحقيق مجتمع علماني في مصر يُفصَل فيه الدين عن المجال العام. 

يتناول الكتاب الصادر عن دار العربي للنشر هذه الأسئلة من منظور النقد الثقافي في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، وذلك بأسلوب سهل وشيق. كما يشرح بعض المفاهيم مثل الحداثة والعلمانية وتجديد الخطاب الديني والثورة الدينية عن طريق تتبع كيف تُشرح هذه المفاهيم في المسلسلات والأفلام والكتب الرائجة.فمن خلال أفلام مثل "الجمال الأمريكي" و"أفاتار" ورواية "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور، تشرح هبة شريف تطور الحداثة الغربية والعلمانية التي انتهى بها الحال في أحيان كثيرة إلى عكس ما وعدت به من رفاهية ورخاء وعدالة للبشرية.ومن خلال فيلم "الزوجة الثانية" و"المصير" و"الإرهاب والكباب"، تشرح الكاتبة كيف يتم تطويع الدين لخدمة أغراض الحكام، وكيف يتحول تجديد الخطاب الديني إلى أداة في يد النخب ولماذا يفشل هذا التجديد دائمًا.

كما يحاول الكتاب أن يعلق على ظاهرة الإقبال على الروحانيات لتأكيد فكرة الاستسلام والزهد من خلال مناقشة تسلل هذه الأفكار بنعومة في كتاب "قواعد العشق الأربعون" لـ"إليف شافاك" ومسلسل "الخواجة عبد القادر". بالإضافة إلى ذلك، لا تغفل الكاتبة الإشارة إلى البرامج التلفزيونية و"التوك شو" التي كان لها أثر كبير في توجيه الناس وأفكارهم عن الدين والتدين وتجديد الخطاب الديني في لحظة معينة لوجهة معينة.

تقول هبة شريف "في مصر تسمع كثيرًا من المنظِّرين والمثقفين يردِّدون مقولة: "إن الشعب المصري متديِّن بطبعه"، يرددها المتديِّنون، ويردِّدها غير المتديِّنين أيضًا في نقدهم للمتديِّنين. كما تسمع أيضًا من يتَّهم الدين بتغييب العقول، وبأنه التجارة التي يستخدمها الإسلاميون أو السياسيون للوصول إلى الحكم. ومن الممكن أيضًا أن تقابلك تلك المقولات التي أصبحت – من كثرة ما ردَّدها العارفون وغير العارفين - تشبه الصلوات الهندية، وأعني بها مقولات مثل "ضرورة فصل الدين عن المجال العام"، أو "فصل الدين عن السياسة"، أو "فصل الدين عن الدولة". ثم تسمع من يردُّ – في الاتجاه المقابل - بأن "السبب فيما نحن فيه هو ابتعادنا عن الدين وصحيحه". وبين كل هؤلاء يعيش معظم المصريين وهم يؤكدون على أهمية الدين في حياتهم اليومية دون تنظيرات أو فلسفات كبيرة أو تعميم أو خطابات أكاديمية. يعيش معظم الناس حياتهم اليومية المزدحمة بلا تفكير عميق فيما وراء هذه الظاهرة؛ ظاهرة الإيمان والتدين. في الحياة اليومية تختلف الممارسة عن الخطاب الذي يُنظِّر لها، أو عن النظريات التي تَدرِّس هذه الممارسات الدينية اليومية.

وتضيف "يعيش المصريون الدين في شعائرهم اليومية من صلاة، وصوم، وزكاة، وزيارات للمساجد أو الكنائس. كما يمارسون طقوسًا أخرى متوارثة مثل حضور الموالد، وزيارة الأولياء، والإيمان بكراماتهم ومعجزاتهم. يعيش المصريون حياتهم بإيمان أن الله معهم أو يُدبِّر لهم أمورهم فيرزقهم أو يَنصُرهم أو يبتليهم. وللدين دور في حياة المصريين. فهو إما التزام طقسي شكلي في الصلاة، والصوم، والملبس، والمأكل، أو هو دين شخصي يعتقدون فيه وفي قدرته على الارتقاء بشخصياتهم وأخلاقهم، أو يتحول عند بعضهم ليصبح حالة فلكلورية يزورون فيها الموالد وحلقات الذكر، بل ويقرؤون عنه، ولكنهم لا يمارسون شعائره بإيمان. والدين عند بعض الناس أيضًا حراك ثوري أو وسيلة لتعبئة الناس أو لمحاولة السيطرة عليهم. 

وترى أنه في مصر يبرز الدين بشكل يومي في الرموز البصرية في الحياة اليومية. في الملصق الذي يقول "هل صليت على النبي اليوم؟" الذي انتشر مؤخرًا في جميع الشوارع، أو في القرآن، أو صورة السيدة العذراء الموجودين داخل السيارات، أو في السلاسل المعلَّق فيها مصاحف ذهبية أو "ما شاء الله" أو صلبان. كما تنبعث من المساجد أصوات الأذان خمس مرات يوميًّا، ويُذاع القرآن صباحًا من معظم المحلات المسلمة، وتدق أجراس الكنائس يوم الأحد من كل أسبوع، ويذيع التليفزيون شعائر صلاة الجمعة أسبوعيًّا، ويذيع الاحتفال بعيد الميلاد المجيد كل سنة. وفي مسلسلات رمضان فلا بد من إذاعة تمثيلية واحدة دينية على الأقل، أما البرامج الدينية فتذاع بشكل دائم. ناهيك عن الدعوات والإشارات الدينية التي تزخر بها وسائل الاتصال الاجتماعي، من أمثلة الدعاء والصلاة على النبي أو الخلاص على يد يسوع. ولكن هل بالفعل المجتمع المصري متديِّن بطبعه؟ أم أن الانسان متديِّن بطبعه؟ أنا أميل أكثر إلى تصديق أن كثيرًا من الناس – في شرق الكرة الأرضية أو غربها، وفي شمالها أو جنوبها – لا يستطيعون التخلي عن الإيمان بوجود إله، حتى لو تخلوا عن فكرة الانتماء لدين بعينه. صحيح أن بعض علماء الطبيعة والفلك والرياضيات هاجموا بشدة فكرة وجود إله، أو خالق للكون، لأن الحقائق العلمية قد استطاعت الإجابة عن الكثير من الأسئلة المطروحة، ومنها مثلًا نظريات نشأة الكون، التي يعزوها عدد لا بأس به من العلماء إلى نظرية الانفجار العظيم، أو إلى نظرية الصدفة، أو إلى نظرية العوالم المتوازية التي تكرر نفسها بشكل دائم. ويوضح عالم الرياضيات الأيرلندي "جون لينوكس" في كتابه "هل دفن العلم الإله؟" الصادر عن دار "س.ك.م ر. بروك هاوس للنشر" عام 2002. كل هذه النظريات التي تؤكد على أن العلوم الطبيعية قد جعلت العالم في غنى عن الإله.إلا أن الدين لم يختفِ من حياة الإنسان تمامًا، ولم تختف فكرة الإيمان بقوى عليا غيبية لا نستطيع الوصول إليها، ولم تختفِ الإشارات التي تؤكد وجود خطة كبرى للكون، ولا الإشارات إلى أنه لا شيء يحدث بالصدفة. 

الكتاب وفقا للمؤلفة "لا يبحث في فكرة الإله وما إذا كان الإله موجودًا بالفعل أم لا، فالكثير من الآراء التي تقول بعدم وجود الإله، تقابلها آراء بوجوده تعادلها في القوة. وعدد الناس غير المؤمنين بالإله، يقابلهم آخرون لا يستطيعون الحياة بدون الإيمان بوجود خالق. ولا يبحث في الآراء الفقهية والفلسفة الإسلامية، فأنا لست من أهل هذا التخصص. كما لا يبحث هذا الكتاب في الفلسفات الغربية الخاصة بالحداثة والعلمانية، إلا في حدود ما يخدم الفكرة الأساسية للكتاب، وهي دراسة الظواهر الثقافية الخاصة بالدين في الحياة اليومية وتحوله من مكون ثوري إلى أداة في يد الحكام، أو تطوره من الثورة على الظلم إلى أداة في يد الظالمين. فأنا أحاول في هذا الكتاب إلقاء الضوء على سؤال عما إذا كان الدين فعلًا وسيلة لإخضاع الشعوب للحاكم، أم إنه يصبح أحيانًا عاملًا من عوامل التعبئة الثورية للدفاع عن العدل والحرية؟"

تهتم هبة شرييف في الكتاب بدور الدين في حياة المصريين وتحوله من حالة ثورية إلى حالة استسلام بالقضاء والقدر والمكتوب، وبإبراز كيف تعمل السلطة الحاكمة على فرض حالة من التدين من خلال تعبيرات ثقافية في البرامج التليفزيونية، والجرائد، والكتب، والأفلام، والمسلسلات، والحضرات الصوفية. وكيف يقاوم المصريون كل هذا، وكيف يعبِّرون عن مقاومتهم في تعبيرات ثقافية مضادة للسلطة -السياسية أو الدينية. وتحاول أيضًا أن تبحث في سبب عدم اختفاء الدين من حياة المصريين رغم دعاوى العلمانية والحداثة التي أطلَّت برأسها علينا منذ القرن التاسع عشر، ورغم المحاولات الدؤوبة للمثقفين المصريين وعلماء الدين وبعض المهتمين بالإصلاح من أجل تحقيق مجتمع علماني في مصر يُفصَل فيه الدين عن المجال العام. 

وترى هبة شريف أنه "ما زال الدين يمثل إحدى ركائز الهوية الجمعية لأي مجتمع، لأنه يحمل الكثير من تاريخ الأمة المشترك وتفاصيل حياة أفرادها اليومية في الطعام والشراب والملبس والاحتفال. وليست الشعائر والطقوس وإحياء الاحتفالات الدينية إلا تأكيدًا على هذا التاريخ المشترك. فما زالت الاحتفالات الدينية تحظى باهتمام أكبر وأضخم من الاحتفالات القومية في كل مجتمعات العالم. صحيح أن بعض هذه الاحتفالات قد تحول إلى طقس اجتماعي أكثر منه دينيًّا، إلا أنه طقس ما زال قائمًا على استرجاع تاريخ ديني وهوية ثقافية دينية مشتركة.ورغم الاعتقاد السائد لدى كثيرين أنه مع كل اكتشاف علمي جديد تتأكد نظرية عدم وجود الإله، وأن الكون قد نشأ وفقًا لقوانين فيزيائية ومعادلات كيميائية خلقتها الصدفة، فإن التساؤلات حول الكون وخلقه والحياة والموت ما زالت بلا إجابة. فما زال بعضنا يشك في أن الصدفة وحدها هي التي تقف وراء هذه الدقة في المعادلات الفيزيائية لخلق الكون. فهل يمكن أن يكون حساب تلك النسب والمسافات بهذه الدقة خاضعًا للصدفة فقط؟ ولماذا لم يحدث خلل ولو بسيط خاضع للصدفة أيضًا حتى الآن؟ وإلى جانب تلك الأسئلة عن القوانين الفيزيائية هناك أسئلة أخرى ما زال العلم غير قادر على الإجابة عنها لنا. لماذا خلقنا من الأساس؟، ما الغرض من وجودنا المؤقت على الأرض؟، ولماذا وُهبنا حياة محدودة تنتهي بالموت؟، ومن اختار لنا حياتنا؟، من اختار ميلادنا في جنس معين أو بلد معين أو طبقة معينة؟، وأين تذهب الروح بعد الموت؟، وما أهمية الحياة في الدنيا إذا كانت النهاية هي الموت وتحلل جسم الإنسان؟ وعلى الجانب الآخر ظل هناك كثيرون غير مقتنعين بفكرة الإله أيضًا. فكيف يكون الإله غير قادر على التدخل ليحجِّم من الظلم والشر الموجودين في العالم؟ فإذا كان الله موجودًا، فلماذا لا يتدخل ليدفع الشر بعيدًا عن المؤمنين به على الأقل؟"

وتقول "في "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور تطرح إحدى شخصيات القصة هذا التساؤل. فـ"مريمة" المرأة المسلمة التي تعرضت هي وأهلها إلى اضطهاد الإسبان عن طريق التضييق عليهم في دينهم وترحيلهم قسرًا أو تنصيرهم - تناجي ربها في يأس وعدم فهم:"طلبنا منك الكثير؟ لم أطلب جاهًا ولا مالًا. ما طلبت سوى أن أكحل قبل الموت عيني برؤية الصغار. وأن أدفن بعد الموت، بما شرّعته من غُسل وكفن وآيات ومن آياتك تقرأ في العلن عليّ، فلماذا تضن وأنت الكريم؟ ولماذا تستبد وتقهر وتتجبر وأنت الرحمن الرحيم؟".ولا تفهم "مريمة" سبب هذا الانتصار للإسبان على المسلمين في "غرناطة"، وهي المرأة التي كانت تطيع الله في حياتها ولا تفعل ما يغضبه. فتعود لتتساءل "لماذا تمنح خصومنا فرحة الزهو بالانتصار وتعلي مجدهم على أطلالنا؟ هل هجرتني.... هل هجرتنا؟".

وتضيف "تعكس مناجاة "مريمة" لربها عدم فهم بعض الناس لما يردده البعض الآخر عن الاختبارات الإلهية أو الابتلاء الذي يمتحن به الله المؤمن الصابر ليفرزه عن غير المؤمن. فـ"مريمة" لم تعد واثقة تمامًا أن الله ينصر من يطيعه ويحيا وفقًا لمبادئه وقوانينه التي سنها للكون رغم أنه قد وعد الصالحين وبشرهم بنصر من عنده متى اتبعوا طريق الحق والخير وعاشوا حياتهم وفقًا لشريعته. فتخيلت أن الله هجرها وهجر قومها من المسلمين، ليكون سقوط "غرناطة" بداية انهيار الحضارة الإسلامية وصعود الحداثة الغربية. هُزمت الحضارة الإسلامية أمام الحضارة الغربية الحديثة وأفكارها العقلانية وفلسفاتها وتقنياتها وصناعتها وجيوشها، ولكن رغم ذلك فلم يحدث أن استطاعت الحداثة الغربية فرض نموذجها على المجتمعات الإسلامية.ولهذا يطل علينا التساؤل الذي يظل بلا إجابة قاطعة: هل كان الإسلام سببًا في تأخر بلاد المسلمين؟ هل الإيمان بالدين هو السبب في انكسار الحضارة الإسلامية؟ وهل فصل الدين عن الدولة أو العلمانية هي السبب الأساسي في تطور المجتمعات الغربية لتصبح النموذج الوحيد الناجح في العالم الذي يعنى بحقوق الإنسان وحريته ويحقق رفاهية ورخاء للمواطنين ويضمن عدم استبداد الحكام؟.

وتلفت هبة شريف إلى أنه إذا كانت الأنظمة الحاكمة في مصر تستخدم الدين في تمرير قوانين ورسائل بعينها للمواطنين، نجد في المقابل مجموعة من الناس تعتمد على الدين ومضمونه الثوري من أجل مناهضة ومقاومة استبداد الحكم. استنادًا على المبدأ التوحيدي القائل إن العبودية والطاعة لله وحده، وإن الجهاد فريضة مقدسة ضد الخضوع لحاكم ظالم ومن أجل "نصرة المستضعفين في الأرض".وبهذا أصبح الدين في مصر أداة في يد السلطة لإخضاع الناس، وفي ذات الوقت أصبح دافعًا للثورة ضد السلطة. وسوف يدفع هذا الجانب الجهادي في الدين النظام الحاكم في مصر لمحاولة تحجيم دور الدين السياسي. وسوف تتعاون دول كبرى من أجل طمس الجانب الجهادي في الدين، الذي يتحول أحيانًا إلى التطرف والتكفير وردود الأفعال العنيفة. فبعد أن تعرضت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لعمليات إرهابية باسم الدين، أصبحت تستشعر أن الجهاد باسم الدين لم يعد يقتصر على المجتمعات غير الغربية وحدها".