&
تنحاز الشاعرة كريستين حبيب في ديوانها:" عن نجمة هوت" لما تألفه ذاتها من مشاهد يومية بسيطة، ومن شؤون صغيرة متداولة وملموسة. الشاعرة لا تذهب للبعيد، أو المتعالي، إنها تذر الأشياء الكبرى التي قد ينشغل بها البعض. انشغالها الجوهري بما تشعر وتدرك وتحد س به فيما يحيط بحواسها أو مخيلتها.&
هذا الانحياز يعطي للذات الشاعرة قدرا من الاهتمام بالوعي الداخلي ، وبالوعي النشط الحر الذي يتواتر داخل هذه الذات، ذكرياتها، تأملاتها، ماضيها وحاضرها، استشرافها للحظة المقبلة، أخيلتها. من هذه المنظومة البسيطة / العميقة معا تتواتر شعرية كريستين حبيب وتسمو إلى أن تعبر وتفيض وتتكلم.&
يعزز النص الأول هذه الترتيبة المبدئية للقول الشعري عندها، ويعزز الصورة العامة الناظمة لهذه الشعرية، فيما يدلنا بداءة، وهو له الصدارة ها هنا بوصفه النص الأول بالديوان على تلمسات أولى للفضاء التعبيري الذي تود الشاعرة طرحه والسمو إلى القارئ من خلاله.&
النص بعنوان:" حقل أقلام" ص.ص 11-12 ، تقول فيه الشاعرة:
لا أحبُّ الزعماء
ولا رجال الدين
ولا العسكر.
أحب ريشة عصفور
وتر قيثارة، رذاذ غيمة، بقايا قمر.
لا أرفع التماثيل ولا الابتهالات ولا الرايات
أرفع خيوط حرير
فتحط فراشات
أفتح راحتين بيضاوين
فتبيت ابتسامة .. اثنتان
لا أقيمُ مهرجانات
ولا ذبائح، ولا عروضًا مرقّطة
أقيمُ في سهل أقلام
لتعلو سنابل الأحلام.&
&
النص بسيط، وهو يتواتر ما بين النفي ( لا أفعل)& والإثبات ( أفعلُ) ليحدث جدلية حيال القارئ تتادى عبر النسق العباري الذي يحركه الفعل، وتتأدى عبر التضاد وعقد مقارنة بين الدلالات التي يحويها فعل النفي وتلك التي يتضمنها فعل الإثبات. هي مقارنة ضمنية بالتأكيد تبدي لنا أن الشاعرة تنحاز للجزئي، والبسيط، والمهمش، والصغير. هي تنحاز على اليقين لطموحات ذاتها الشعرية التي تأنف من بهرجة المهرجانات والذبائح والعروض المرقطة لتتضمن مع واقع الحياة الصغيرة. حيث يفعل الصغير حدثه بتلقائيته وفطرته من دون ترسيمات مسبقة ومن دون تعالٍ .&
وبشكل تقريري ومباشر وصاخب تقرر الشاعرة أنها لا تحب ثلاث شرائح كما في بداية النص:&
&
لا أحبُّ الزعماء
ولا رجال الدين
ولا العسكر.
&
الشرائح الثلاث تتمتع بسلطة ما، بل هي السلط التي تدير الحياة بتسلطها أو عنفوانها الذي تقننه وتضع دساتيره وعاداته وتقاليده، الشاعرة تريد كسر هذا التسلط لتشعر بقدر من الحرية تنقب فيه عن إنسانيتها المحاصرة، فتنحاز إلى الصغير والبسيط :&
أحب ريشة عصفور
وتر قيثارة، رذاذ غيمة، بقايا قمر.
هي أشياء رومانتيكية ما تحبه الشاعرة، أشياء تقودها إلى وعيها واقعا وحلما، وتقودها إلى الشعور بحسها ووجدانها، لذا هي تعيد التأكيد تارة أخرى على عدم حبها للشرائح الثلاث المذكورة بأول النص فتشير إلى ما يدل عليهم : التماثيل / الزعماء ، و الابتهالات / رجال الدين، والرايات/ العسكر . لتواجههم تارة أخرى بالصغير والبسيط من خيوط الحرير للفراشات، من أجل بحث عن عالم أنقى يقود لابتسامة ما وإلى أفق آخر تتفتح فيه سنابل الأحلام.&
مواجهة الكبير بالصغير والجزئي والبسيط والمهمش بقدر ما تصنع جدلية شعرية تصنع حالة من البحث عن حقيقة الذات وبحثها عن عالمها الفطري بعيدا عن العالم المادي المصنوع وما يحاط به من نفعية وتسلط وقهر.&
هذه الرؤية سنجدها تنبثق حيالنا في نصوص متعددة من الديوان مثل: ربيع وجهي ص.ص 13-14 " وجهي انتفاضة حجارة وياسمينن سقطت في ساحاته التيجان والعروش" ، و" الوردة" ص.ص 22-23 و" أريد نهرًا " ص.ص 28-29 " ماذا أريدُ في العيد؟ أريد نهرًا لغابة أطفالي، وشراعًا لأمهم التي تزوجت الريح" ، و" أحلام بسيطة " ص.ص 46-48 تمثيلا.&
إن الشاعرة من الجلي إنها تقول ذاتها، ومن الجلي إنها تنقب عن تفاصيلها الخاصة. وبذلك تعطي نوعًا من تسمية الأشياء البسيطة لديها، تعطي إن حياة الذات الشاعرة مرتبطة أكثر بما يشكل الحياة وتلاقحها الدرامي لا بما يشكل المتسامي والكبير، والمتسلط. إنه حياة بلا أقنعة وبلا ابتهالات ومهرجانات. حية تبحث عن حريتها وتضامنها مع ما هو ملموس وبسيط وحالم.&

الآخر/ الفارس
الآخر يشكل أفقًا دلاليا حاضرا بكثافة في القصيدة النسوية بشكل عام، كل شاعرة لها تصوراتها حول الآخر، قد يكون آخر وجدانيا أو رومانتيكيا، أو يكون آخر يشكل فضاء للاحتواء، ونموذجا مثاليا للرؤية الشاعرة، وقد يكون آخر طريدًا لا يقدم سوى ما هو سلبي ترصده الذات الشاعرة بقدر من الفقد والشعور بخيبة الأمل.&
الآخر عند كريستين حبيب يتجلى بمختلف صوره السالفة، معززة رؤيتها في ديوانها الأول :" لا تقطف الوردة" (دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى 2012 )حيث أفردت أغلب نصوص الديوان للتعبير عن الآخر الوجداني، ورسم مشاهد ومواقف متعددة يحفز ما هو رومانتيكي صورتها المثلى.&
و في نص جلي تتوجه لآخرها لترسمه في كلمات معبرة في نص بعنوان:" أريدكَ فارسًا":
أحبّني على الخشبة&
لا وراء الستار
أحبني قصيدة في كتاب&
لا فكرة في خيالك
أحبني فرسًا راهنتَ عليها جهارًا
فرسًا تطيرُ
تطير بك
فرسًا تربح ..
لن تخسر . / ص.ص 71-72&
لا تحبذ الذات الشاعرة هنا الحب المستتر، المخفي وراء الوعي، تحبذ الحب العلني الذي تجهر به الكلمات وتعبر عنه، وتعايشه الذات كفرس طليقة ، هكذا سيعانق الحب الواقع ويلاقي الحياة جهرا، وهو ما تصبو إليه الذات الشاعرة هنا. فارس الحب سيكون فارسا حقيقيا علنيا له صوته وحضوره وتجلياته.&
ومع هذا التوصيف للفارس المؤمل، هناك إرادة أخرى تتأدى بشكل ضمني يصورها هذا المقتطف:
لياليّ من دونك:
سرير بلا قصيدة
وسادة بلا حلم
غروب بلا فجر/ ص 80
هو مطلب الحياة الوجدانية التي لابد أن تكون مختلفة وأن تتمتع بحيوية ما، فضلا عن صدقها الواقعي. بعيدا عن الشعور بالفقد والغياب .&
هذه الحياة الوجدانية تحفل من جانب آخر بصورة العاشقة التي هي صورة تلقائية طبيعية كما تصور النصوص، لا تذهب بعيدا لكنها تدرك حضورها الأسمى عبر جملة من التوصيفات المليئة بالتفاصيل الأنثوية اليومية كما في نص :" حقيبة قلب" ص.ص 105-106 أو في النص التوصيفي:" ملاك يقين" ص.ص 111-112 :
لا تبحث عن الوحش فيّ
فأنا كما رسمتني ريشة الله
حين ارتاح في اليوم السابع
طفلة أبدية، قصيدة بيضاء
خطوة فالس.. خطوتان
بحيرة صافية
شرفة من غيم
سماء من عشب
كرزة وفية
أرض مالحة
أسرابُ سلام
ملاكُ يقين .&
&
في التوصيفات العشرة تتجلى صورة الذات الشاعرة، فهي توصيفات عبر عبر التشبيهات عن طموح الأنا وأشواقها في أن تعيش رؤيتها الشعرية في الوجود وتعايشها، بانسيابية جلية ومشاهد متعددة ترغبها سواء كانت على مستوى الواقع أم على مستوى ما هو معقول ومتخيل.&
من هنا نجد الطفلة الأبدية إلى جانب القصيدة إلى جانب رقصة الفالس إلى البحيرة والشرفة والسماء والكرزة والأرض وأسراب السلام وملاك اليقين، هي مشاهد متجاورة شعريا لكنها متباعدة واقعيا، وهو ما يحيلنا هنا إلى تأمل ما تجيش به الذات الشاعرة من وعي مضمر حالم حيث تتلاقى في هذا الوعي المتطابقات والمتضادات، وتتقارب الأشياء وكأنها أشياء ملموسة ومحسوسة. الذات الشاعرة تتجاوز بالتأكيد ما هو منطقي وتعيد منطقة الأشياء تبعا لما يبتكره الوعي وتزجيه المخيلة الحالمة الرائية.&
ولعل ما يحدث هنا هو مطمح القصيدة ومطمع التجربة الشعرية بوصفها كلا. الشعر لا يتوقف بل يركض ويكتشف ويستقصي، ويقدم لنا عوالمه المدهشة حتى ولو كانت صادمة لوعينا القارئ.&
&
بنية الأشكال المكثفة:&&
من وجهة شكلية تتعدد أشكال الكتابة الشعرية في ديوان كريستين حبيب، منطلقة من البنية القصيرة بكثافتها وإيجازها في كل نصوص الديوان الذي يتضمن (53) نصًّا قصيرًا ويقع في 119 صفحة في قطع مربع صغير.&
ومن بين هذه الأشكال نركز على ثلاثة أشكال هي:
- أولا: الشكل الفلاشي الومضي الذي يتجلى كقصائد قصيرة مركزة ومكثفة ما بين صفحة أو صفحتين.&
- ثانيا: ما تسميه الشاعرة ب:" خواطر خطرة" وهو عبارة عن شذرات شعرية متتالية، أو ما يسميه الشاعر عبدالقادر الجنابي ب: " شقائق نثرية" وهو أشبه بفن التوقيعات في التراث العربي ، أو بالجمل النثرية المحكمة التي نراها في كتاب:" المواقف والمخاطبات" للنفري مع اختلاف الرؤية الشعرية بالطبع عن الرؤية الصوفية لدى النفري.&
- ثالثا: النصوص القصيرة جدا التي تحمل مسمى " الهايكو" حيث ضمنت الشاعرة سبعة نصوص تحت اسم:" هايكو 1 – هايكو 7 " وهي نصوص كذلك تشبه فن الإبيجراما .&
لكن ما يجمع بين هذه الأشكال الثلاثة هو القصر والتكثيف والإيجاز والتركيز، وهي رؤى تنبثق من انشغال الشاعرة باستثمار آلية البنية القصيرة للنص حيث كتابة الحذف تشكل السبيل الجمالي الأول لإبداع القصيدة.&
ومن الجلي هنا أن الشاعرة تدرج نصين متفرقين تحت مسمى : خواطر خطرة 3" و" خواطر خطرة 4" أي أنها تتواصل مع ديوانها الأولى الذي يضم خواطر خطرة 1 ، و" خواطر خطرة 2" مما يشي بوحدة الموضوع الشعري خاصة وأن معظم نصوص الديوان الأول تتوجه للآخر الوجداني .&
في خواطر خطرة " 3" ( 34-39) تقول الشاعرة:
- يا صانع المطر . اجمع غيمتينا
- قلبك فضاء أنا يمامته
- أشمُّكَ فتتسع الحدائق
- لا عصفورية تضاهينا جنونًا ... عصفوري.&
- أتفتتُ حروفًا حين تقرأ .. أذوبُ حبرًا حين تكتب.
- مهما كثرت النساء حولك. سأبقى أنا كثيرتُكَ الوحيدة.&
- أحب الطريق إليك حين تكون عاثرة.&
وهكذا تمضي نصوص خواطر خطرة، في هذه المساحة التعبيرية الجديدة التي تكتب رؤاها عبر صور واستعارات تتخذ سمت النثر الفني لكنها تصبو إلى أن تضيء أكثر عبر كثافتها ووجازتها وشعريتها.&
إن الشاعرة كريستين حبيب قدمت لنا عملا شعريا مكثفا، يتلمس رؤية دلالية موحدة تخاطب الآخر وتستشرف ذاتها الشعرية داخل النصوص متيقنة أن النص القصير قد يصنع فرادته وأسلوبه حين يكتب بشكل تمّحي منه الزوائد والاستطرادات، ويتفتح على إضاءات واعية حالمة ليكتب تجربته بتلقائية وخصوبة وسياقات جمالية تتضامن وتتحفز كي تصل إلى صوتها الشعري الدال.&
&