&
هنالك من الشعراء من يركن الى أسلوب يراه مناسبا ويؤثره على غيره من أساليب الشعر قديمها وحديثها. ورغم تقلبات الاشكال الشعرية العربية وتطور بعضها واندثار بعضها الآخر وسيادة بعضها لفترة من الزمن على غيرها، نجد ان تلك النخبة من الشعراء تبقى وفية لالتزاماتها الفنية ومن ثم الرؤيوية طوال فترات انتاجها الشعري الوفير.
ومن هؤلاء الشعراء نشير الى التونسي القيرواني عبد العزيز الهمامي.
أمامي مجموعتان شعريتان له صدرتا في أهاب أنيق وإخراج جميل. أولاهما أبجدية الماء والرمل 2011. وثانيهما مسافات غامضة 2015. وكلاهما صدرتا في تونس.
تتراوح قصائد الديوانين المذكورين ما بين القصيدة العمودية التقليدية بشكلها المنتظم في الشطرين، وبين القصيدة الحرة التفعيلية بشكلها العنقودي، مع احترام كامل للموسيقى الشعرية المتولدة من إيقاعات البحور الشعرية الخليلية، وإيفاء مميز للقوافي المتتابعة، &واستعمال ذكي لميزة الرَّوِيّ المتناظر، حين تغيب القافية أحيانا.
وتقف تجربة شعرية فريدة من نوعها في هذين الديوانين وربما في مسيرة الشاعر عبد العزيز الهمامي كلها، عصية على التصنيف، وردت على الصفحة 66 من مسافات غامضة تحت عنوان "طفل غزة" تستحق أن يُفردَ لها كلام نقدي مخصوص في مناسبة مخصوصة. إن هذه القصيدة الرائعة بحق، شكلا ومضمونا، إنما أضعها في خانة "القصيدة المدورة" على وفق ما برع فيها شعراء عرب قلائل أذكر منهم بعجالة خليل الخوري في "مملكة النمل" وحسب الشيخ جعفر في "الرباعية الثالثة".
وإن كان القياس على المحمول في المضمون فإني لا أرى في الأفق، عربيا وحتى فلسطينيا، قصيدة راقية على المستوى الفني وصادقة في مستوى المضمون وتكون قد اهتمت وخصصت جُلَّ خطابها الشعري للشأن الفلسطيني الغزاوي تحديدا كما فعلت قصيدة "طفل غزة" لعبد العزيز الهمامي.
(على عتبة البيت طفل/ يلاحق لعبته/ ثم يقضم تفاحة في يديه/ وكان يردد أنشودة القِسْمِ حينا/ وينظر مبتسما للسماء الخفيضة/ وهي تغيم رويدا رويدا/ ولم يدر أن الصواعق/ سوف تجيئ من الأرض حاملة/ لهبا وشظايا/ وأن الصواريخ قادمة بعد حين/ وأجنحة الطائرات المغيرة/ سوف تدنس أطراف غزة/ وتسحق حارته المطمئنة بعد دقائق/ لكنه ظل يلعب منغمسا في البراءة/ والأم تجلس جانب إخوته الأربعه/ .... )
- (ملاحظة: الفواصل المائلة بين الأبيات أصلا من عمل الشاعر).
&
في تَقْدِيمها لديوان "أبجدية الماء والرمل" تقول الشاعرة جميلة الماجري "الشاعر يولد شاعرًا. أن &تكون شاعرًا أو لا تكون تلك هي المسألة، وذلك هو سرّ الشعر وذلك هو الشعر عصيٌّ على غير أصحابه". وتواصل الشاعرة التونسية أصيلة القيروان كلامها مؤكدة إنها قد عرفت عبد العزيز الهمامي منذ أن كانوا نخبة من شباب القيروان في أواخر ستينات القرن العشرين مسكونين بهواجس الكتابة وعشق الشعر منذ تلك الأيام بنادي الأدب بالقيروان، "عرفته شاعرا كما عرفناه جميعنا مرتادو ذلك النادي منصف الوهايبي محمد الغزي وبشير القهواجي والصحبي الوهايبي وعلي الزايدي وخالد العلاني وعامر سحنون وسعاد النجار والحبيب الحميدي والشاعر أحمد القديدي وغيرهم". وتضيف قائلة: "كنا أوفياء لجلسة صباح الأحد نترقّبها بشغف شديد ونعدّ لكل جلسة نصّا جديدًا أو مجموعة من النصوص نقرؤها ونتناقش حولها، وكان عبد العزيز الهمامي هو سادن النادي الأمين عليه وما زال يحتفظ بأرشيفه وتاريخه بعد أن ذهبت بنا الحياة مذاهب شتى. فعبد العزيز الهمامي - كما تقول جميلة الماجري - من فصيلة الشعراء الفحول المتمكّنين من ناصية الشعر ولا بد للقارئ المطلّع على مدونة شعراء القيروان ضمن مدونة الشعر التونسي في مرحلته الحديثة أن يدرك انتماء هذا الشاعر إلى ما يطلق عليه البعض، «مدرسة شعراء القيروان » على مستوى اللغة والمضامين والنفس والمناخات التي تشكّلها القيروان".
وفي السياق نفسه يقول الشاعر محمد الغزي ان عبد العزيز الهمامي لا ينتسب كشاعر إلا الى نفسه اذ ظل على امتداد عقود يكتب خارج التيارات الشعرية التي كانت تستقطب الشعراء وتلون مواقفهم ورؤاهم. فالشعر عند الهمامي انما هو "افصاح عن الداخل لا عن الخارج، كتابة لتاريخ الروح، تعبير عن خبئ الاحاسيس وغائر المشاعر. هذا التصور لفعل الكتابة هو الذي وجه قصائد الهمامي وأتاح لها ان تكون متوهجة جديدة دائما ومتجددة أبدا".
أما الشاعر منصف الوهايبي فيقدم شهادته في هذا الخصوص قائلا: "أعرف الشاعر عبد العزيز الهمامي منذ أواخر الستينات وفيا لاختياره الشعري وهو الأخذ بالأشياء القريبة الدانية، فأكثر نصوصه هادئة معتدلة ومن أظهر سماتها صفاء اللغة وانسجام صورها السائغة المقبولة وهي تدور في مدارات قريبة الى عناصر الكون وتخلص الى بداهة الأشياء ولا تتردد في نسج شوابك القرابة بين الإسم والمسمى". ويستدرك معقبا على قصائد الهمامي قائلا عنها إنها: "ربما أثارت بعض القلق في عوالمنا الأليفة وأشيائنا التي استتبت أسماؤها وهي تنفذ الى تفاصيلها وتقف على محتمل حركاتها إلا انها تظل في الأعم الأغلب متناسبة متوازنة".&
ولئن كان مضمون المجموعتين الآنفتي الذكر امتدادا لتجربة الشاعر عبد العزيز الهمامي الأدبية والإنسانية الثرية التي انطلقت من أواخر الستينات وشكلت بأبعادها الفكرية العميقة حسب ما تقوله الدكتورة نضار الهمامي في تقديمها لديوان "مسافات غامضة"، علامة مضيئة في تاريخ المدرسة الشعرية القيروانية، إلا ان ما تضمنته مسافات غامضة من محتوى حداثي متجذر في صميم الوجود ونابع من تضاريس الذات في مدها وجزرها وعلاقتها الوثيقة بواقع الانسان وقضاياه أضفى ما أضفى على الذائقة الفنية من أريج اللغة وتجلياتها على مكامن الجمال المقيم داخل القصيدة. وبعد أن أمعنت الناقدة الدكتورة نضار الهمامي نظرها في مختلف الجوانب الفكرية والأدبية واللغوية لمسافات غامضة أدركت إن الشاعر يريد أن يشتغل على صنع الدهشة للقارئ وإثارة القلق والحيرة لديه من أجل تجسيد الإضافة النظرية والتحليلية للنص الشعري الحديث، وفي ذلك إبداع آخر، كما تقول الدكتورة نُضار.&
ان التنوع في المضامين والدلالات وكذا في الموضوعات والمقاربات لهوَ أمرٌ بينٌ في فضاء المجموعتين الشعري. فمن البوح والوجد الشفيف الملفح برومانسية مموسقة بعنايةِ شاعرٍ يقيم وزنا لموسيقى الكلمات، الى خوض غمار التجربة الروحية والتصوفية، الى النهل من شؤون الوطن وشجونه، لا ينسى الشاعر هموم وطنه العربي الكبير وقضيته المركزية فلسطين، في الوقت الذي أخذت الثورة التونسية في 14 يناير 2011 بكل تجلياتها الحيز المهم من قصائد شاعرنا الهمامي في ديوانيه المذكورين وخاصة "مسافات غامضة".&
في "أبجدية الماء والرمل" تقول الشاعرة جميلة الماجري في ملاحظة نقدية لها إن الإيحاء والإلغاز يبدأ من العنوان ويفتح الشاعر مواربة الباب عن حقل دلالي يعيد إلى مملكة المعنى سلطانها وإلى اللغة وهجها وأسرارها وإن مراوحة عبد العزيز الهمامي بين أشكال قصائده وبنيتها بين العمودي والحرّ يؤكّد انتماء الشاعر إلى مدرسة شعرية متينة كما يعبر ذلك عن تمكّنه من أدواته الشعرية في هذا السياق.
ولد الشاعر عبد العزيز الهمامي في عام 1952 بالقيروان التي زاول بها تعليمه الابتدائيّ والثانويّ واهتمّ في بداية شبابه بالأدب وكتابة الشعر ونشر معظم قصائده بالمجلات والصحف التونسية والعربية وأحرز عديد الجوائز وشهادات التقدير في المهرجانات والملتقيات الأدبية والشعرية. وكانت مجلة «الفكر » أوّل من نشر إنتاجه المتنوع الذي يلامس الجوانب الوطنية والغزل والوجدانيات والمجالات المرتبطة بقضايا الإنسان والحضارة. أسّس أول ناد للأدب سنة 1968 في القيروان وكان هذا النادي الذي تواصل نشاطه لأكثر من خمسة عشر سنة وفي أمكنة متعددة من المدينة فضاء فكريا للإبداعات الشعرية والأدبية الواعدة في ذلك الوقت. كتب أوّل أوبيريت شعرية وطنية عام 1969 تمّ عرضها بقصر رقّادَة أمام الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وأنشد معظم أشعاره في المهرجانات والمحافل الوطنية والثقافية الكبرى.&

انتفاضة
(مهداة إلى جيل الثورة التونسية الرّائعة)

أتَيْتُكَ أبحث عنّي
ولكنّك الآن عنّي اختفيت
وكنتُ أشمّ خُطاكَ بعيني
وأعلم أنّيَ منك
وأنّكَ منّي
فكيف تجزّأتَ في الظلّ
ثمّ انكفأت؟
إذا ضحك الآخرون
بكيتَ
وإن شربوا الماء واحتكروه
ظمئتَ
تجوع إذا شبعوا
وتعشق صمت القبور
إذا انتابك الوجع
أَ مختلفٌ أنت عن حلم جدّي
وعن مدن الأمس
عن لون غيمتها
عن عصافيرها المُقعده
وكيف انتفضت كصقرٍ جريح؟
لتستأجر البحرَ والأنجمَ المُجهده
وما خانك الثائرون
وجئت تقصّ حِبال الأنوثة
تطوي كوابيسَ هذا الظلام
وتحرقُ ريشَ الطّواويس
حين اندفعت
لتفتح نافذةً للهواء
وتصبح جمعًا
وعاصفةً في الشّوارع
تعلن ميلادَهَا خارج الليل
تكتب نصّا جميلاً
يُبدّد في وطني
نكهةَ القلقِ المُتثائب
في أعين العابرين
وأسماء قتلى الشّوارع
منقوشةٌ في رخام القبور
التي ابتسمت لي في الصباح
هم الشهداء جاؤوا
على سفن الوردِ والياسمين
فيا أيّها المتمدّد حولي
أراك تُحلّق مثلي
حزينًا كهذا التراب
وممتلأ باختلاج الرّياح&
تسير على أرضها المُتعبه
وتحنو على بلدٍ ضاق ذرعا بقادته
وبمن سرقوه
ومن نهبوه
ونهرُك لا ماء فيه
وما استبدل الثوب حين مرّ الرّبيعُ
على ضفّتيه
تظلّ على قاب قوسيْن من نبعِها
تتَشهّى صباها
وأحلامها الهاربه
وتخرُج من عنُق الصّمت
ندفٌ من الثّلج بين يديك
لتُصبحَ جَمرَتَها
ورفيف سنابلها
وتظهر ومضة سحرٍ
على نخلها
وعشاء بساتينها الشّاحبَه
وفي فلكها الرّحب
يولد اسمكَ محتفيا بالتسابيح
مغتسلاً برحيق البنادق
والأغنيات
يُزخرف صوتي
بِعُشبِ الحقول
ويمنحه ثورة الكلمات
سياطًا إلى وطن لوّثته الخيانات
أنهكه الظلم والخزيُ والارتشاء
وأنت مع الفجْر تأتي
لتطلع فوق الحرائق
غُصنَ ضياء
وسوسنة وحمام
وتنبع تحت الحناجر
نهرًا سخيّا يمرّ بدون لجام.
&