احرص عندما أكون في أوسلو: العاصمة النرويجية،على زيارة "بارك فيغيلاند" Vigeland Park ، احرص، أيضا، ان تكون زيارتي للبارك شتاءً، رغم اني زرت المكان في كل فصول السنة. اعتقد ان شتاء أوسلو، باستطاعته ان يظهر قيمة تلك المنحوتات ويدلل على رسالتها بصورة جلية وعميقة! وقبل ان اتحدث عن ذلك البارك المدهش، اود ان اقف، سريعاً، عند سيرة النحات النرويجي المثير الذي عمل منحوتات ذلك البارك جميعها. 
اسمه "غوستاف فيغيلاند" (1869 – 1943) Gustav Vigeland ، لكن "فيغيلاند" هذا، ليس لقبه الحقيقي، اذ قام "غوستاف" في العشرينات من عمره، بابدال لقبه "تورسين" Thorsen ، الى اسم قريته الصغيرة "فيغيلاند" التي عاش فيها عندما كان طفلا صغيراً. (والقرية من اعمال مقاطعة "مندال" الواقعة في اقصى الجنوب النرويجي، وتبعد حوالي 500 كم عن العاصمة). درس غوستاف النحت عند محترف احد النحاتين النرويجين المعروفين. وقام ما بين 1891 و 1896 بزيارات مهنية خارج بلده، وزار كوبنهاغن للتعرف على جديد فنون النحت فيها، مثلما زار بعض المدن الاوربية ، بضمنها برلين، فلورنسا وقصد باريس للتعرف على "مثله الأعلى" النحات االفرنسي "اوغست رودان" (1840-1917)، صاحب منحوتة "المفكر" (1904) الشهيرة. في تلك السنين بدأت تظهر لديه اهتمامات خاصة بـ "ثيمات" معينة ، ستكون لاحقا شاغله المهني والشخصي، وهي المواضيع الخاصة بـ "الموت"، و"الانسان ومصيره"، وعلاقة "الرجل بالمرأة". في عام 1894 يقيم معرضه الشخصي الأول في النرويج، وفي معرض عام 1896، ينال ثناء واسعاً واشادة نقدية مرموقة لعمله الفني. وقد ساهم عمله في ترميم مبنى الكاثدرائية في مدينة "تروندهيم"، واتصاله المباشر مع فنون العصور الوسطى، الى لفت انتباهه الى ثيمات أخرى سيتكرر حضورها في منجزه الفني، مثل "التنين"، بكونه رمزا ليس فقطـ للخطيئة او الاثم، وانما، أيضا، بصفته احدى الاستعارات لتمظهر قوى الطبيعة التي تصارع الانسان!
عند اقامته في أوسلو العاصمة، يحصل فيغيلاند على مكان لاستديو خاص به من قبل السلطات المحلية في المدينة. وبعد الاستقلال عن السويد عام 1905، الذي بموجبه امست النرويج دولة مستقلة، سعت الدولة الفتية الى تكريس رجالاتها المميزين في المشهد الثقافي للبلاد، وأُعتبر ""غوستاف فيغيلاند" احد اهم النحاتين في النرويج الحديث، ونال تقديرا واسعا، كما كُلف في مهام عمل تماثيل وانصاف تماثيل للشخصيات المهمة في بلده، بضمنهم "هنريك ابسن" ونيلس ابيل"، كما صمم مدالية "جائزة نوبل للسلام". 
في عام 1906، يعرض فيغيلاند نموذجه "الطباشيري" لنافورة، اختارت بلدية أوسلو مكانا لها في الساحة التي تقع امام البرلمان الوطني. ورغم ان عمله هذا قوبل بترحاب شديد واثني عليه من قبل النقاد، الا ان خلافا ظهر في المشهد الثقافي، مثيرا نقاشا حادا عن طبيعة وخصوصية المكان المختار للنافورة، الامر الذي أدى الى ارجاء التنفيذ لفترة طويلة. في ذلك الحين أضاف فيغيلاند مجاميع نحتية آخرى الى النافورة. بيد ان الحدث الأهم، في حياة الفنان الشخصية والمهنية، والذي سيغير جذريا واساسيا نمط عيش وإنتاج غوستاف فيغيلاند الفني، هو ما حدث لاحقا، وتحديدا في سنة 1921. ففي تلك السنة قررت بلدية أوسلو ان تهدم مباني المنطقة التي يتواجد فيها استديوالنحات المشهور، لبناء مكتبة في الموقع المحدد. وقد اثار هذا القرار جدلا واسعا أيضا كما اثار حفيظة النحات النرويجي الأول وعدم رغبته في ترك المنطقة والتنازل عن مشغله الخاص. الا ان الحل وجد سريعا بتقديم بلدية أوسلو مقترحا الى النحات، بمنحه مشغلاً واسعا في مكان آخر من المدينة، مع موقع سكن فيه، ولكن بشرط واحد، وهو ان يهب السلطات البلدية جميع الاعمال النحتية التي سيعملها لاحقا، والتبرع لها بجميع الرسمات واعمال الطباعة الغرافيكية والرسوم التخطيطية واشغال الميداليات التي سيعمل عليها. وقد وافق فيغيلاند على هذا الشرط! بمعنى ذلك، "علق" النحات حياته كلها بقبوله لهذا الشرط، وكبلها بتوقيعه تلك الاتفاقية. وفي سنة 1924، انتقل غوستاف فيغيلاند الى مشغله الخاص، القريب من "بارك فروغنير" في ضاحية "فروغنير" Frogner. وعلى امتداد عشرين سنة عمل فيغيلاند بصورة مستمرة وبلا كلل على انتاج قطع نحتية مشغولة بالغرانيت، والحجر، والمصبوبة بالنحاس، وحديد الصب. ورغم ان احداً لم يشاهد ما انتجه طيلة هذه الفترة ولحين ...وفاته في سنة 1943! فانه استطاع ان يحصل على موافقة البلدية على أفكاره النحتية والتصميمية. ويقال انه كان يأخذ تعهدا مكتوباً، من مساعديه النحاتين القلائل الذين ساعدوه في فترات زمنية محددة، وكذلك من العمال الذين يجلبون له قطع الغرانيت او الحجر، بانهم لن يتحدثوا اطلاقاً، للآخرين عن طبيعة شغله، وعن عديد منتجه النحتي والفني. وعندما توفي النحات في 12 مارت 1943، انبهر النرويجيون ومعهم العالم لغزارة الاعمال الكثيرة، ولتنوع ثيماتها المختلفة التي خلفها وراءه النحات المتوفي! اذ قدرت بحوالي 1600 قطعة نحتية ومئات من الرسمات الكرافيكية وآلاف الرسومات التخطيطية. وكلها تتحدث عن المواضيع التي كانت تشغل بال النحات عن "الرجل والمرأة" عن "الحب والصداقة"، عن "الإباء والبنين"، وعن "الميلاد والموت"، عن "النضوج والذبول"، أي، بعبارة آخرى، عن الانسان ومصائره! ما جعل نتاجه المتحقق ليكون نتاجاً غير مسبوق ولا مثيل له في المشهد المهني والثقافي، ليس فقط في النرويج، وانما في عموم إسكندينافيا، وحتى في العالم باجمعه!
من ضمن ما تركه "غوستاف فيغيلاند" بعد وفاته فكرة لتصميم حديقة "بارك" واسعة تستوعب عرض قطعه النحتية، وهو ما تم تنفيذه لاحقا في سنة 1947، أي بعد وفاة النحات. وفكرة التصميم تعتمد على وجود محور أساسي متمثل في مسار عريض، يبدأ من البوابة وينتهي عند موقع <عجلة الحياة>. والأخير، هو احد "المواقع" الرئيسية للحديقة، التي تمثلها "البوابة" ثم موقع "الجسر" فوق بحيرة مائية والى جانب الجسر ثمة ساحة لعب الأطفال> مرورا بموقع "النافورة" المربع، التي يصل اليها عبر مجموعة من درجات، ويحيط بها من جهاتها الأربع مجموعة من انصاب على شكل أشجار، مع شخوصFigures داخل اغصان تلك الأشجار. ثم يصل الزائر الى هضبة "المسلة" (مينوليت) Monolith، التي يرتقي اليها عبر سلسلة من سلالم وضع في امكنة خاصة بها مجموعة تماثيل. وتقود درجات هذه السلالم الى الاعلي، حيث تقع منحوتات المسلة (مينوليت). والأخيرة، تعد عملا مثيرا ومدهشا في آن، اذ تتضمن "عمود" كامل من الغرانيت يبلغ طوله 17 متراً، ويزن حوالي 180 طناً، محفور فيه شخوص باعمار مختلفة، بلغ عددها 121 شخصاً، تتشابك أجسادهم، وتلتف حول العمود الغرانيتي، وهي تتصارع في الوصول الى قمة المسلة. (وقد كان جلب ذلك العمود الغرانيتي الكامل الى ورشة النحات بمثابة تحدٍ حقيقي. اذ تم نقل تلك الكتلة الثقيلة والضخمة مابين 1927-1928 مباشرة من مقلعها الى البحر، ومن خلاله الى اقرب نقطة الى مشغل النحات، ومنها براً الى المشغل ذاته. وكانت الوصلة الأخيرة تنطوي على صعاب جمة، بحيث كانت سرعة نقل الغرانيت لا تتجاوز مترا واحدا في اليوم. وعلى امتداد 14 عاما اشغل على تنظيفها مساعدو النحات الثلاثة، وتم نحت شخوصها، استنادا الى النموذج الجبسي للمسلة المعمول من قبل النحات نفسه). بعدها يأتي موقع "المزولة" (الساعة الشمسية)؛ وتنتهي بـموقع "عجلة الحياة". ويبلغ امتداد هذا المسار حوالي 850 مترا. 
ما يثير في "بارك فيغيلاند" ليس ، فقط، العدد الكثير من القطع النحتية التي يصل مجموعها الى 600 قطعة نحتية متواجدة في مكان واحد، رغم ان وجودها، بتلك الصيغة الحالية، يعتبر حدثاً حضرياً مثيرا وفريداً بامتياز! ما يثير هو قرار النحات، الذي اتخذه عن طيب خاطر، والذي بموجبه تنازل عن حقه المشروع، والتخلي عن الاستمرار في الحياة المعاشة، التي الفها الافراد العاديون. نحن هنا إزاء فعل لايمكن للمرء (أي امْرُئٍ!) ان يتخذه بسهولة، ومن ثم تحمل تبعاته، والتنصل عن ممارسة الحق الممنوح لك في حياة عادية! ثم "ذهنية"، اذاً، مخالفة، ثمة "ثقافة" لسلوك، ربما تبدو غريبة، للبعض (لي، في الاقل، شخصياً؛ انا القادم من منطقة جغرافية آخرى، معبئة بتقاليد وعادات آخرى!)، ذهنية، بمقدورها ان تتيح اتخاذ مثل هذا القرار الحياتي الجسور و"غير المألوف"، الذي يمكن له ان يغير نمط حياة الانسان مرة واحدة! اتكون هي الذهنية "الإسكيندينافية"، التي دابت على تمجيد "العزلة"، والشغف في "الانسلاخ"، والنزاعة نحو "الاعتزال"، باعثاً لذلك القرار الاستثنائي، والفريد... والشاذ ايضاً؟! لكننا في النتيجة، نمتلك، الآن، تلك الحديقة الأسطورية، "بمفرداتها" التصميمية، التي تشكلها قطع نحتية لشخوص في أوضاع مختلفة. لقد سعى النحات وراء عدم "تسمية" تلك القطع النحتية، بأسماء معينة، او منحها عناوين محددة. فالمتلقي، وفقا لفكرة النحات، يراد له ان يتجاوزر يقينية المعني الواحد، وان يدرك لوحده، رمزية تلك الشخوص، وان يضفي عليها فهماً خاصا به انطلاقا من رؤيته الشخصية وادراكه الذاتي لما هو مرئي!
تبدو للبعض (تبدو لي شخصياً) ان "روح" القطع النحتية، ورمزيتها، وتمثلاتها تتجلى بوضوح وبقوة في فصل الشتاء. فالسماء الملبدة بالغيوم الدائمية، واللون المميز الاحادي لطبقة الثلوج التي تغطي أرضية "البارك"، نثارها الذي يكلل أعالي القطع النحتية، بالإضافة الى حضور اللون الرمادي السائد والمسيطر على أجواء المشهد المرئي، كل ذلك، يخلق نوعاً من "وحشة"، تطفح بكآبة مفرطة، قابضة للنفس، يُستذكر بها "عزلة" النحات و"توحده". كما تجعل من القطع النحتية المبثوثة في المكان، وكأنها تشي برسالة ذات معنى مزدوج: فمرة، تدلل تلك القطع عن حضور قيمتها الفنية والجمالية، والمرة الآخرى، توحي بعذابات النحات وتستدعي احزانه! وعلى العكس تماما، تخلق أجواء الفصول الأخرى، (وخصوصا صيفاً)، بالوانها المتعددة وضجيج حركة مياه النافورات المتسارع، ووجود الأشجار باوراقها الكثيفة، وازدحام رواد البارك وزواره الكثر، باعمارهم المتبابينة واصواتهم المختلفة، تخلق طقسا مختلفا معني في تكريس، فقط، جماليات المنحوتات المرئية لدى الملتقي، لكنه يهمل حضور النحات ويتغاضى عن خصوصية ابداع عمله!
ويبقى "بارك فيغيلاند"، بمنحوتاته العديدة، وثيماته المختلفة، ظاهرة فريدة في ممارسة تصاميم الفضاءات المفتوحة Landscape، كما انه يعد احدى الايقونات الحضرية في العاصمة النرويجية التي تزار مراراً وتكراراً. ففي فضاءآته واجوائه، يمكن للمرء ان يحس، ضمن احاسيس آخرى، بذلك الشغف الفني، الذي جعل <غوستاف فيغيلاند> ان "يهب" حياته (بالمعنى المباشر للكلمة!) لفنه، ويكرسها لمنتجه الاستثنائي!¤¤
 
معمار واكاديمي