في كتابها "كون من زجاج"، تكتب دافا سوبيل التاريخ الخفي لنساء بارزات، ساهمن في علم الفلك، وغيّرن الفهم العام للنجوم، ومكانة الإنسان في الكون. ولها أيضًا كتابا "خط الطول" و"ابنة غاليليو" في الإطار نفسه.

إيلاف: كان علم الفلك دائمًا يعاني نقص المهارات، فهناك نجوم كثيرة وأشخاص قليلون لرصدها، فضلًا عن عدم توافر الوقت، لأن زمن حياة الإنسان يقارب الصفر مقارنة بعمر الكون، أو حتى بعمر كوكب في هذه المجرة.

كون من زجاج

فرصد الاتجاهات الكونية التي تتبدى على امتداد آلاف السنين يحتاج أجيالًا من الراصدين المثابرين. ولنأخذ على سبيل المثال دورة الاعتدالات الكبرى لمحور دوران الكرة الأرضية حين يتعادل النهار والليل مرتين في السنة، ومرور 26 ألف عام قبل أن تبدو الأبراج كأنها تدور في فلك الأرض.

صار ممكنًا
في حالة رصد ظواهر نادرًا ما تكون مرئية، مثل المستعرات العظمى، تتطلب العملية طرائق تقنية معينة لحفظ السجلات، تتعدى حياة الحضارات وأعمار مؤلفات المادة الكونية.

فسجل وكالة الفضاء الأميركية لتاريخ خسوف القمر (من عام 2000 قبل الميلاد إلى عام 3000 بعد الميلاد) يتضمن عمليات رصد سجلها فلكيو بلاد ما بين النهرين القدماء باللغة المسمارية وأثبتوها على ألواح. وللمقارنة مع هذا الزمن الغابر، فإن متوسط حياة القرص المدمج يبلغ اليوم نحو 30 عامًا. وهكذا، تظهر حضارات وتزول وحضارات، وعلم الفلك باقٍ.&

أسفر اختراع التصوير الفلكي في منتصف القرن التاسع عشر عن زيادة المهارات في هذا المجال، وارتفاع وتيرة التحديات الأرشيفية التي واجهت الفلكيين دائمًا. لكن، فجأة، أصبح من الممكن وبجهد قليل نسبيًا رصد الملايين من النجوم. وأمكن تغطية مساحات كاملة من السماء بينها نصف الكرة الجنوبي بفضل المراصد الجديدة التي أُنشئت في جنوب أفريقيا وأستراليا.

كما أمكن رؤية نجوم باهتة لا تُرصد حتى بأفضل التلسكوبات اليدوية في ذروة وقت تعرضها وحساسية الألواح الفوتوغرافية. وأكثر من ذلك، كانت الصورة الفوتوغرافية قادرة، باستخدام مكونات بصرية تكسر الضوء وتوزعه على حزم متعددة، على إنتاج أطياف نجمية متدرجة بتلك الخطوط المتميزة التي تتحدد بها هوية العناصر المختلفة.

في باريس وبوتسدام وأوكسفورد والجزائر وهلسنكي وملبورن وكامبردج وماسوشيتس، تراكمت أطنان الألواح الزجاجية المنقطة ببصمات ملايين النجوم وأطيافها المميزة، وتعاظم معها الطلب على المهارات العالية والرخيصة والأمينة لتحليل جبال من البيانات.

نساء ماهرات
تشكل أرشيفات الألواح الزجاجية هذه صلب كتاب دافا سوبيل "كون من زجاج: كيف قاست نساء مرصد هارفرد النجوم" The Glass Universe: How the Ladies of the Harvard Observatory Took Measure of the Stars (منشورات فايكينغ. 336 صفحة؛ 30 دولارًا. نشرته فورث إستايت في بريطانيا في يناير 2017)، كما تمثل الإشارة إلى السيدات اللواتي قِسن النجوم بمنزلة حلّل معضلة النقص في المهارات.

وإذ تركز المؤلفة سوبيل على مرصد هارفرد، فإنها تروي كيف بادر برغماتيان هما إدوارد بيكرنغ (مدير المرصد بين عامي 1877و1919) وهارلو شايبلي (مديره بين عامي 1921 و1952) إلى تشغيل عشرات النساء بأجور زهيدة لحساب الكون الزجاجي الذي أوجده التصوير الفلكي، وقياسه وتصنيفه واكتناه طبيعته.

أعطى هذان المديران نساءً كثيرات فرصة إعالة أنفسهن (بالكاد) من خلال أداء عمل يمكن أن ينذرن أنفسهن له ليل نهار. وتركن بصمتهن على علم الفلك بإنجاز تصنيفات لأطياف النجوم ما زالت مقبولة على نطاق واسع بين العلماء، والعلاقة بين نبضات النجم وقوة سطوعه التي اكتشفتها هنريتا سوان ليفيت في عام 1908، وأول التقديرات لتركيب النجوم التي أكدت النسبة الغالبة لعنصري الهيدروجين والهليوم في تكوينها.

من النساء الأخريات اللواتي أسهمن بقسط مميز آني جامب كانون، التي استحدثت نظامًا دوليًا لتصنيف النجوم، وسيسليا باين أول امرأة تنال شهادة دكتوراه في علم الفلك من جامعة هارفرد. وأمضت هؤلاء النساء الشطر الأعظم من حيواتهن في مرصد هارفرد، وعملت نساء أكثر منهن فترات أقصر قبل أن يتركن المرصد إلى وظيفة أفضل، أو الزواج، أو الاثنين معًا.

من أين؟
قصة هؤلاء النساء معروفة لمؤرخي العلم، ولغالبية علماء الفلك، لكن سوبيل ترويها بحيوية وتعاطف مستخدمة المواد الأرشيفية الغنية المحفوظة في جامعة هارفرد استخدامًا ممتازًا. تروي سوبيل في كتابها هذا قصة هؤلاء النساء مدفوعة بشخصيات موضوعها وصفاتهن المميزة، من مثابرة ونزاهة واجتهاد، كانت كلها أساسية في مساهماتهن.

لكن، كانت ثمة عوامل أخرى أدت دورًا في هذا الميدان. فمن أين جاءت هؤلاء النساء ذوات المستوى التعليمي الرفيع والكفاءة العلمية العالية؟، ومن موّل شراء المراصد والمناظير الكبيرة الجديدة، والرواتب الإضافية، وسلسلة المطبوعات والبعثات الخاصة للفلكيات؟، فكليات البنات كانت حديثة النشأة في أميركا وقتذاك، وسارعت إلى إرساء تقاليد قوية في علم الفلك، واقتدت بمثال ماريا ميتشل، مكتشفة إحدى المذنبات وأستاذة علم الفلك في كلية فاسار للبنات، من أجل إعداد طالبات مؤهلات وتوفير فرص عمل لهن في اختصاصهن.

كانت هذه الكليات مصانع النساء العاملات في مرصد هارفرد بأعداد متزايدة، وإليها كن يعدن في بعض الأحيان للانضمام إلى هيئاتها التدريسية. وكانت خريجات هذه الكليات مخلصات وذوات عزيمة وعلاقات واسعة، وكن ثريات في أحيان كثيرة. كما تستعرض سوبيل في كتابها طابورًا من المانحات الثريات اللواتي رفدن الكليات والمراصد بالتمويل.

حقيقة الاستغلال
يتضمن كتاب سوبيل إشارات عديدة إلى الحياة في المرصد، بما في ذلك حقيقة أن محل سكن المدير كان في مبنى المرصد ماحيًا الخط الفاصل بين الخاص والعام، بين الموظفين وأفراد العائلة.

وكان من المألوف أن تعمد المراصد إلى تشغيل أقرباء المدير، بمرتّب أو من دون مرتّب. وبالتالي، ليس مستغربًا أن تستخدم العاملات في مرصد هارفرد استعارات عائلية لوصف بيئة العمل. فالعائلات، الحقيقية والبديلة، أبقت علم الفلك يعمل في ساعات غريبة، على قمم معزولة وعبر أجيال متعددة.

وتلاحظ الأكاديمية الأميركية لورين داستون، مديرة معهد ماكس بلانك لتاريخ العلم في برلين، أن الحديث العاطفي عن العائلات في كتاب سوبيل لا يُغطي حقيقة الاستغلال الذي كانت تتعرّض إليه العاملات في مرصد هارفرد، حيث كانت رواتبهن أقل كثيرًا من رواتب رجال بعُشر كفاءاتهن ومؤهلاتهن. وتنوه بأن الأمر لا يقتصر على الموقف من المرأة، بل إن مراصد مثل مرصد أكسفورد وغرينتش حلت مشكلة المهارات المطلوبة بتشغيل تلاميذ بأجور متدنية أيضًا، وإن كانت فرص الارتقاء والتقدم أكبر.

حتى في عصر الكومبيوتر والتحليل اللوغاريثمي، يشغّل الفيزيائيون أفواجًا من المتطوعين للمساعدة على تصنيف جبال البيانات، التي تجمعها التلسكوبات الراديوية والفضائية. وعند هؤلاء المتطوعين دوافع متنوعة، لكنّ كثيرين منهم يشبهون نساء مرصد هارفرد بتطلعهم إلى المشاركة في شيء أكبر منهم كثيرًا.