&
في الاول من آذار / مارس مطلع شهر الربيع كما يقال لكنه بقي خريفا جهما امام أنظاري إذ شاءت الصدف ان أقصد شارع السعدون وسط بغداد لأمر ما مستخدما الطرق الفرعية للشارع بسبب الزخم الهائل في السيارات والخناق المروري الذي اعتدنا عليه كل يوم تقريبا ، فوقعتْ عيني على بناية مسرح بغداد العتيد ، وليت عينيّ عميت وسكت لساني خرَساً وشرد ذهني خبلاً وهالني ما رأيت من أكوام النفايات والازبال قبالة رصيفهِ حتى اصبحت وكرا وملاعب للقطط السائبة والكلاب الشاردة &ومبْولة للعابرين من السكارى والمتشردين ، وكم كان ذلك المشهد مؤثرا مؤلما وأنا استعيد تلك الايام الباهرة الجمال يوم كنّا نرتاد هذا المسرح الراقي بعروضه المنتقاة من قبل فرقة المسرح الفني الحديث والذي كان يوما ما صرحا كبيرا لنشر الوعي الثقافي والفن الاصيل الممتع والمفيد .
امام هذا المشهد المخزي قد يفقد الإنسان توازنه وتبلغ به الصلافة وسلاطة اللسان حدّا بعيدا من الهجاء وصبّ اللعنات تلو اللعنات على مسؤولي الثقافة والسينما والمسرح وكلِّ من لا يعبأ بإرثنا الفني الراقي وكل من يقتل نوستالجيا العقول النيّرة التي أمتعتنا زمنا مضى وقدمت فنا مسرحيا عمل على تثقيفنا وأزاد من أفق وعينا .
أقول بملء فمي دون خجل أو ميلٍ لهذا الفكر أو ذاك ؛ ألا يستحي مسؤولو الثقافة في بلادنا حينما يروا تلك المشاهد المؤذية ولايقومون بعمل شيءٍ يُنهض هذه الصروح الثقافية ؟ .... ومادور امانة بغداد عندما يصل الى اسماعها صراخ المثقفين والمهتمين بالفن الجميل بضرورة العناية والرعاية لهذه الأمكنة الثقافية التي طالما سحرت روّادها وأبهجت قلوبهم بعروضها الرائعة مثل " بغداد الازل بين الجدّ والهزل " و" النخلة والجيران " ومسرحيات صاموئيل بيكيت وفولتير وموليير وشكسبير وهنريك أبسن وغيرهم الكثير الكثير مما يصعب حصره ؟؟ّ!! وكانت تلك المسرحيات زادنا وزوادتنا في إثراء عقولنا وصقل نفوسنا .
ما ضرّ لو قامت امانة بغداد بالتنسيق والتشاور مع وزارة الثقافة باستملاك مثل هذه المرافق الثقافية بغية اعادة تأهيلها وجعلها مزارا لمريدي الثقافة او متحفا يقصده المهتمون بالمسرح &وانْ كنّا نفضّل ان نعيده مسرحا حديثا يعيد مجده السالف بعروضه الثرية كما كان قبلا؟!
يؤلمنا ألما شديدا ان نرى مثل هذه الصروح الإبداعية والأضرحة الثقافية ان يتمّ تخريبها وإهمالها بهذا الشكل المروّع وربما المتعمّد حتى اصبحت واجهته وأرصفته مكبّا للنفايات ومرمى للمزابل والأوساخ في مكان كان يوما ما مركز إشعاع &ثقافي يزهو بألقهِ ولمعانه .
&اما آن لكم ايها المسؤولون والفنانون العاملون في مؤسسة السينما والمسرح ان تعيدوا شيئا من الالق الغائب وتعيدوا وقع خطوات يوسف العاني وزينب وناهدة الرّماح وخليل شوقي وفاروق فيّاض وعبد الجبار عباس ومي شوقي &وغيرهم مما لاتسعفني الذاكرة ان أعددهم لأنهم كثرة كاثرة من مبدعي العراق وفنانيه وهي تطأ عتبة هذا المسرح العريق التي علت نخلته العراقية وأطلّت على الجيران باكية حزينة تتوسل ان نمدّ لها الايادي لنرعاها ونهتمّ بها ونعيد تأهيلها .
ألمْ يدُرْ في خلَدكم ايها الساسة ان المسرح هو دعامة الحياة الثقافية واول عتبة من عتبات الارتقاء في الوعيّ الثقافي لشعب يريد ان يكون ناضج الفكر ، سليم العقل ؟ ، ألمْ تدركوا يارعاة الثقافة والقائمين عليها ماقيل مرارا وما تتردد دائما في اذهاننا تلك المقولة الصائبة التي اصبح يدركها حتى العامة من الناس قبل زمرة المثقفين : " أعطني مسرحا متقدما راقيا أعطيك شعبا مثقفا " ؟ !
أخشى انني ربما أنفخ في قِربة مخرومة اذ لا أحد يصغي الى ما نقول وتذهب نداءاتنا سدى ولاتصل الى أذان من يعنيهم الامر فقد جرحت حناجرنا من شدة الصراخ والمطالبات المشروعة دون ان نلمس اهتماما ولو بسيطا بموروثاتنا الثقافية مثلما تم نسيان مسرح الرشيد الذي ظلّ طلَلا وأثَراً مهملا يضيق بخناقهِ الركام وينوء بالانقاض الثقيلة ولا احد يخفف من مآسيه ويعيد خشبة المسرح الى سابق عزّها وتألقها لولا المبادرات الشبابية الفردية التي عملت على تنظيفه ورفع الانقاض عنه تمهيدا لتأهيله في المقبل القريب .
ومع ان لديّ تصوّر مخيب للآمال عن الحال التي آلت اليه بناية مسرح بغداد لكن رؤيتي كانت تنحو نحوا اخر &واتخيل في سريرتي ان هذا المسرح هو اكروبولس عراقي عريق تتعمد معاول الجهل والتخلف على إبقائه خربة للتهكم عليه وابتذاله باعتباره وكرا لممارسة اشكال الحرام كما يتخيّلون في عقائد وأوهام دينية ضيقة الافق تجاه الفنّ عموماً .
أجل فلنقلها صراحةً ودون مواربة أو طمسٍ للحقائق ؛ هكذا ينظر الساسة ومثقفو آخر زمن ان التمثيل على خشبة المسرح يعتبر من المحرمات التي تشغل الانسان عن ذكر الله وعن إدائه لطقوسه الدينية ؛ وبدلا من ان يعزم الفرد على مشاهدة مسرحية تعكس حياته فمن الافضل له – كما يتخيلون – ان يشاهد التشابيه عن واقع معركة الطفّ وما يمثله نفر من الناس في الساحات ايام عاشوراء عن بعض تفاصيل الاحداث التي وقعت في ارض كربلاء .
وأهجس بين هؤلاء الساسة والمعنيين يردّون على مطالباتنا الكثيرة بقولهم : " فما حاجتكم ايها المتلهفون ان تعيدوا اعمال كباركم ابراهيم جلال وسامي عبد الحميد وقاسم محمد وجعفر السعدي ويوسف العاني وفاروق فياض ومقداد عبد الرضا وناهدة الرماح وزينب وغيرهم من المخرجين والممثلين وتستعيدوا ماكتبه كتّابنا الاوائل وتكرروا أنشطة فنيينا من كبار المبدعين الاوَل ؟؟ .
لست وحدي من يقول اننا الان في مرحلة ظلامية مكفهرة طاغية في العراق أرضا وسماءً فهل سمعتم ان مسرحا تنويريا راقيا عمل على رقيّ افكارنا زمنا طويلا يغدو مكبّا للنفايات وخربة تشمئز النفوس والعيون من النظر اليها ؟ .
كيف يمكن ان تتحمل انظاركم ايها المسؤولون الثقافيون ان تروا بناية مثل مسرح بغداد وهي بناية بسيطة غير باهظة التكاليف لو سعيتم الى إعمارها ويسهل تنظيفها وتأهيلها بقدر بسيط من المال وغير مكلف ليعيد المسرح نشاطه من جديد خاصة ان اكثر ممثلينا يُمنَّي نفسه ان يرتقي منصته ويعيد ولو شيئا بسيطا من لمعانه واشراقته الاولى .
يا سادتي المسؤولين الثقافيين هنا في بلادي المبتلاة بكم ؛ ألم تزوروا اوروبا ومعظم العالم المتمدن قبلا وتروا ان مسارح صغيرة تأسست منذ عشرات العقود ومنها ابنية متواضعة &شيّدت منذ القرن التاسع عشر وقبله لم تزل تقدّم عروضها الى الان ومنها من اصبحت مزارات ثقافية يؤمها السواح والوفود الثقافية ، فما الضير ان تحذوا حذوهم وتتعلموا كيف تولون الادب والفنّ وأضرحته الجليلة رعاية واهتماما وصيانةً لا ان تكتفوا بالعناية لأضرحة أوليائنا الصالحين وأئمتنا البارّين ، وشتان مابين أئمة الفن والثقافة ومن يعمل على تنوير عقولنا ورفدنا بالمتعة والفائدة والارتقاء وبين من يُظلم نفوسنا وأرواحنا ويستعبد عقولنا في سجون الاثنية والتحجّر والجهالة والظُلامة العقائدية .
&