&

ترجمة وتقديم: حسونة المصباحي

عن دار"بيرنو دوساي"، صدرت مؤخرا في ترجمة فرنسية متميّزة، مجموعة القصائد الأخيرة التي كتبها الشاعر اليوناني الكبير يانيس ريتسوس(1909-1990). وجاء في المقدمة أن الشاعر لم ينقطع عن الكتابة حتى الأيّام الأخيرة من حياته، متحديا متاعب الشيخوخة. وفي كل يوم، كان يخصص ساعات طويلة منعزلا في مكتبه، منصرفا للكتابة فلا يلهيه عنها أيّ شيء آخر. فالشعر بالنسبة له لم يكن لا تورية،ولا تعويضا عن شيء ما ،وإنما كان المتنفس الحيوي،والملاذ الوحيد في ساعات الشدة والضيق.
وتعكس المجموعة الشعرية المذكورة التي حملت عنوان:”الشرفة" هموم الشاعر وقد تقدم به العمر ، وبات عالما بأن الموت وشيك. لذا هويستحضر الماضي بكل أوجاعه وآلامه،وبكل الأحداث التي حفل بها سواء على مستوى العائلة،أو الوطن. إلاّ أن تلك الأحداث لم تنل منه، بل ظلّ رابط الجأش، "ولا حجة له سوى نجمة". وها هو في النهاية "بلا أضواء، وبلا ديكور، وبلا متفرجين"، وعليه أن يلعب دوره وحيدا على الركح. وفي واحدة من قصائد المجموعة، يكتب يانيس ريتسوس لرني شار قائلا:”رني شار، بالتأكيد سنلتقي في مكان ما أنا وأنت.وربما يتمّ ذلك في وَرَقات النوم،أو ربما في الموكب الصامت للكلمات في أوقات الغروب المقلقة عندما على جرس مُنْقلب على وجه الأرض الممملوءة بمياه المطر تكون قد حَطّت الطيور التسعة الرمادية التي تشرب قطرة قطرة ورافعة رؤوسها الجميلة تقول شكرا للامرئي الشاسع.أي، نعم رني، ففي هذا الشكر الفائق الوصف كنا قد التقينا".
&
-1: بين العميان
ماذا كان يفعل سائرا في النهار وفي الليل
بين العميان الإثني عشرة؟كان يحاول، من دون أن يُرى،
وضْعيّات ، وحركات شنيعة، -أحيانا
عاريا تماما، وأحيانا مُرتديا قميصا، أو ممتشقا سيفَ
الأبطال المقتولين،أو في لباس شفّاف لميّتة الأسطورة، ودائما
تحوّلات مفاجئة، مُقْنعة، بلا حجة. العميان
كانوا يأكلون كثيرا، ينامون جيّدا. في منتصف النهار،
كانوا يقضمون أظافرهم مستمعين إلى راديو
الحانة المقابلة. واحد يغسل رجليه في
طَشْت من حديد.الثاني يضع على رأسه قلنسوّة مجرّج. التاسع، يقف هادئا.
وكان يراقبُ الجدار عن قرب.وهو
كان يعلم جيّدا أن العميان لم يكونوا عميانا أبدا.

-2:تمرين متواصل

ما كان قد قيل ولم نسمعه. شيء آخر
يُهْدَى للصّمت، ويُنْسَى، ويتواصل
في تاريخ شيء آخر، وفي الإرتباط
بعرْق لا يزال يدقّ بين وقت وآخر
بينما أنت تنظر هناك
إلى البحر الهادئ، المتسامح بلامبالاة،
وإلى الصبار الغارق في الصخور.
عندئذ تكون صرخة الطائر من فوق الأسوار
هي نفس الإنذار القديم.
والحراس الذي لم يعدْ له شيئ يحرسه
يسير على لوحة ضيّقة فوق الصهريج
حيث غرق الأبطال والرهائن،
كما لو أنه يجهد نفسه من دون هدف للرقص على الحبل،
مبدّلا بندقيته بمظلّة صفراء.

-3: الكلمة نفسها
الكلمة التي تعود مُضاعفة، الكلمة التي تتجاسر،
الكلمة نفسها التي ترتعشُ، وتندهش من معناها
المجهول دائما،
مثل العَصب الدقيق جدا والذي لا ينقطع أبدا عن الإختلاج
تحت نظر إمرأة جميلة، في حين تكون الأجفان الطويلة الشائكة مثبتة على اللامرئي محاولة
مَنْعه من أن يتحرك مرة أخرى، عندئذ نسمع عند باب الحديقة
صوتَ بائع الحليب الشاب. وكل شيء يصبح من جديد طبيعيا وحزينا،
فكما لو أن ظلّ الأشياء الذي يتمدّد فجأة
حرّا في الهواء،
يتقلّص، ويتكاثف، ويصبح أكثر سوادا وأشدّ هزالا لكي يلتصق
بالحاجز المعدني الداخلي للخزْنة الفارغة.