رغم موته المبكر، ترك الشاعر التونسي الكبير أبوالقاسم الشابي(1909-1934) إنتاجا شعريا ونثريا مهما يعكس موهبة عالية، وذكاء وقّادا، وثقافة عميقة، وفكرا مستنيرا. كما يعكس إحساسا فنيّا نادرا في الحقبة الزمنية التي عاش فيها. فإضافة إلى ديوانه "أغاني الحياة، ترك الشابي مذكرات ترسم في بضعة أسابيع صورة للأوضاع التونسية في مجالات مختلفة في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي. كما ترك رسائل يرسم فيها بدقة صورة للحياة الثقافية في زمنه. إلى جانب هذا، كتب العديد من المقالات حول الشعر التونسي والمغربي، وخلف أثرا نقديا فريدا من نوعه، أعني بذلك "الخيال الشعري عند العرب"الذي هو بمثابة قراءة مُعمّقة لمجمل الشعر العربي القديم، وللأساطير التي أنتجها الخيال العربي سواء قبل الإسلام،أم بعده.

و"الخيال الشعري عند العرب" هوفي الأصل محاضرة كان الشابي قدألقاها عام 1929في قاعة المدرسة "الخلدونية" التي كانت منبر المثقفين الوطنيين والمستنيرين في تلك الفترة. وكان آنذاك في الثامنة عشرة من عمره. وبسب قيمتها النقدية والفكرية، وخطورة الموضوع الذي تناولته بالبحث والدرس، قرّر الأستاذ زين العابدين السنوسي المعروف بتحمسه للأفكار الجديدة في النثر كما في الشعر، إصدارها في كتاب. وفي مقدمته كتب يقول:”لما سمعت المسامرة لأول مرة، خرجت من قاعة الإجتماع مهموم العقل أكثر مما كنت مُنبسط النفس، بل يمكنني أن أقول إنني خرجت من تلك الجلسة منكمش النفس، واجفها مع أنني كنت ممن صفقوا أكثر لها، ومن المعجبين بدعامتها ولغتها الشعرية الصريحة. بل كنت أنا نفسي الذي قدّم حضرة المسامر إلى مئات المستمعين، مُنَوّها بنبوغه المبكر، وبوجهته في التجديد الأدبي".
ويشير الأستاذ زين العابدين السنوسي في المقدمة إلى أن الجانب الملفت للإنتباه في محاضرة الشاعر الشاب أبي القاسم الشابي هوأنها كانت صادمة للعواطف والعقول، مُنتقدة لتلك الأفكار القديمة التي كان يطمئنّ إليها أبناء الشرق، ولا يجرؤون على التنبيه لنقائصها وعيوبها. فهي بالنسبة لهم بمثابة"المقدس" الذي لا يستحق منهم سوى التبجيل والتكريم والتنويه.
وبالفعل كانت محاضرة الشابي صادمة في ذلك الوقت تاما مثلما كان الحال بالنسبة لكتاب د.طه حسن:”في الشعر الجاهلي". بل يمكن القول أنها لا تزال صادمة إلى حد هذه الساعة حيث تسعى الأصولية إلى فرض الماضي كزمن واحد أوحد. كما أن هذه المحاضرة كانت جريئة في طرح أفكار ما كان أحد ليتجاسر على طرحها وبسطها لتقوّض رؤية قديمة ، إذ أن الشابي ذهب بعيدا في نقد الشعرالعربي سواء قبل الإسلام أم بعده، مشيرا إلى عيوبه وجفافه وضعف صوره واستعاراته، ملمّحا هنا وهناك إلى أن العرب ليسوا "أمّة الشعر" كما هم يزعمون، وأن هناك أمما أخرى تفوقهم في هذا المجال.
والواضح أن الشابي أعدّ لمحاضرته موادّ متنوعة وثرية قد يكون جَمْعُها استغرق وقتا طويلا، وجهودا مُضْنية، وأبحاثا دقيقة، وقراءات مُعمّقة. ورغم أنه كان "يطير بجناح واحد"، أي أنه لم يكن يتقن لغة أجنبية، فإنه استعان بالبعض من أصدقائه الأوفياء، وتحديا بالناقد والمترجم محمد الحليوي، لكي يطلع على الشعر الرومانسي الأوروبي، وعلى التراث الشعري عند الإغريق وعند الرومان، متعرفا على الأساطير التي أثرت في آدابهم ، وفي ثقافتهم. ومعتمدا على كلّ هذا، هوهاجم كلّ تلك الأفكار الجامدة والثابتة التي كانت سائدة في عصره، والتي كانت تعتبر نقدَ التراث الشعري العربي من بين المحرّمات!
في القسم الأول الذي حمل عناون:”الخيال الشرعي والأساطير العربية"، يتطرق أبوالقاسم الشابي إلى الأساطير العربية القديمة، خصوصا تلك التي عرفها العرب قبل الإسلام، مشيرا إلى ضعفها، وسطحيتها، بل إلى "تفاهتها" مقارنة بأساطير الأمم الأخرى كاليونان والرومان والآشوريين وقدماء المصريين. وفي ذلك يكتب قائلا:”ورأيي في هذه الأساطير هوأنه لا حظّ لها من وضاءة الفن، وإشراق الحياة،وأنه من المحال أن يجد الباحث فيها ما ألفَ أن يجده في أساطير اليونان والرومان من ذلك الخيال الخصب الجميل، ومن تلك العذوبة الشعرية التي تتفجّر منها الفلسفة الغضّة الناعمة تفجّرَ المنبع العذب، بل أنه ليعجزه أن يلقى فيها حتى تلك الفلسفة الشعثاء الكالحة التي تطالعه في أساطير الأسكندناف". ويضيف أبوالقاسم الشابي قائلا:”فالآلهة العربية لا تنطوي على شيء من الفكر والخيال، ولا تمثل مظهرا من مظاهر الكون، أو عاطفة من عواطف الإنسان، وإنما هي أنصاب بسيطة ساذجة شبيهة بلعب الصبية وعرائس الأطفال، وبقية الأساطير الدينية لا تفصح عن فكر عميق، أو شعور دقيق، ولا ترمز لمعنى من المعاني السامية، وإنما هي أدنى إلى الوهم منها إلى أيّ شيء آخر". ويعوز الشابي ضعفَ الأساطير العربية إلى أن العرب القدماء احتقروا هذا الفن ،أي فن الأساطير وازدردوه،ولم يعنوا به عنايتهم بالشعر والأمثال. وهويرى أن ما اعتقد العرب أنه أساطير مثل القصص الطويلة التي يروونها عن عمر إبن عدي، وعن أضرابه ممن تختطفهم الجن تعشّقا أوإنتقاما، بل مثل تلك الأحاديث المستفيضة عن أيام العرب وحروبهم، ومثل تلك الأخبار الدموية التي يحكيها الرواة عن قبيلتي طسم وجديس، لا علاقة لها بالأسطورة في المعنى الحقيقي والعميق للكلمة، إذ أنها لا تساعد الإنسان على أن يتعرف من ورائها على حقائق الكون الكبرى، وأن يتعمّقَ في مباحث الحياة مثلما هوالحال بالنسبة لأساطير اليونان والرومان وقدماء المصررين وغيرهم من الأمم القديمة.ويصف الشابي الأساطير العربية بأنها" أساطير وثنية جامدة جافة لا تفقه الحق ولا تذوقت لذة الخيال وإنما هي أوهام معربدة شاردة لا تعرف الفكر ولا اشتملت على شيء من فلسفة الحياة".
ويرى الشابي أن الأدب القصصي عند العرب جافّ هو أيضا مقارنة بالأدب القصصي لدى الأمم القديمة الأخرى. فهومن النوع الذي يُراد منه اللذّة والإمتاع وليس الهدف منه"فهم الحياة الإنسانيّة بما اشتملت عليه من خير ومن شرّ ، ومن حسن وقبْح، ومن لذّة وألم”. وهوخال أيضا من"سبر جرح النفس البشريّة الدامية، ورسم تلك الدماء الدفّاقة التي تندفع حينا بقوّة وعنف، وحينا آخر بهدوء وأناة".ومحاولا رسم صورة لما سمّاه ب"الروح العربية"، يقول الشابي بإن هذه الروح"خطابيّة مُشْتعلة لا تعرف الأناة في الفكر فضلاعن الإستغراق فيه. أوهي مادية محضة لا تستطيع الإلمام بغيرالظواهر مما يدعو إلى الإسترسال في الخيال إلى أبعد شوط وأقصى مدى”. لهذا السبب كان لها ذلك الطابع الشبيه ب"النحلة المرحة لا تطمئنّ إلى زهرة حتى تغادرها إلى أخرى من زهور الربيع”. وهي أبدا متنقلة ، وأبدا حالمة. ولأنها على هذه الصورة، فإن الروح العربية، بحسب الشابي، أضعفت ملكة الخيال الشعري في النفس العربية، وجعلت من الشاعر محاميا لقبيلتة وخطيبها وفارسها، وليس ذلك الذي يسعى إلى مساعدة أبنائها الضائعين بين مسالك الدهر على اكتشاف نور الحياة. كما أن الروح العربية منعت إلى حدّ كبير العرب من الإطلاع في جميع العصور الماضية على أدب الأمم الأخرى.وصحيح أنهم ترجموا بعض الآثار، ونقلوا إلى لغتهم مختلف العلوم العقلية، إلاّ أنهم أحجموا عن نقل ما في آداب الأمم الأخرى ما يمكن أن "يحدث إنقلابا في الروح العربية".لهذا السبب ظلت الآداب العربية فقيرة وجافة على مرّ العصور.
وفي الفصل الذي حمل عنوان"الخيال الشعري والطبيعة في رأي الأدب العربي"، يهتمّ الشابي بالطبيعة كما صوّرها الشعراء العرب.، مشيرا إلى أن هذا التصوير كان خاليا من الخيال والفن، ومن "الجمال الذي يستفزّ كوامنَ الحس، ويهزّ أدقّ أعلاق الشعور". ويعود ذلك بحسب رأيه إلى أن الأمة العربية "قد عاشت في أرض محرومة من هذا الجمال الذي يستفزّ المشاعر ويؤجّجُ الخيال". وكان الشعراء العرب"يتحركون في أرض عارية قاحلة لا يعترض العين فيها غير الموامي المقفرة الموحشة،والصحراي الضامية المترامية، يخطف في حواشيها السراب". إلاّ أن الشابي يستثني من هؤلاء البعض من شعراء العصر العباسي، وأغلب شعراء الأندلس حيث كانت الطبيعة بمثابة" الحلم البهيج الذي يملأ قلوب الشعراء في سكرات الخيال".وهي أيضا "الأغنية المحببة التي يترنمون بها في أمسياتهم الجميلة الحالمة ولياليهم العذبة الفاتنة".
وينتقد الشابي النظرة الدونية للمرأة في الشعر العربي إذ أن أغلب الشعراء لا يهتمون إلاّ بجسدها، وقدّها وجمالها، من دون أن يعيروا اهتماما لروحها ومشاعرها وعواطفها . لذلك هم يتحدثون عنها بما "يتحدث به الفاسق الفاجر" الذي لا تعنيه من المرأة سوى "الأوصاف الجسدية السافلة". ويضيف الشابي قائلا:” وإذن فنظر الآداب العربية إلى المرأة كنظره إلى الطبيعة أو أدنى لا سموّ فيه ولا خيال، وإنما هو مادي محض لا يكاد يرى فرقا بين المرأة والرداء وكأس من الخمر. فالمرأة تتخذ لإشباع شهواب الجسد، والرداء يقي الجسم هاجرة الصيف ويدفع عنه عادية الشتاء وكأس الخمر يتلهّى به في ملء الفراغ". ويعوزالشابي النظرة الدونية إلى المرأة في الشعر العربي إلى أنها لم تنلْ قسطا من الحرية الحقة في جميع العصور بحيث لم تتح لها الفرصة لإظهار مواهبها وفضائلها التي تجبر الرجل على احترامها فيتطلع إلى ما خلف الجسد "من لجّ زاخر وبحر عميق تختلف فيه الأمساء والأصباح والأضواء والظلمات".
وقد يكون الشابي قاسيا في أحكامه على الشعر العربي، وعلى الشعراء العرب في هذا الجانب أوفي ذاك، إلاّ أن كتابه"الخيال الشعري عند العرب"فريد من نوعه. وهو وثيقة هامة مؤسسة لنظرة نقدية جديدة لم يألفها العرب من قبل . لذا يمكن القول أن الشابي هوأحد أوائل المؤسسين الكبار للحداثة العربية.