اشعر وانا، الآن، &في خضم اهتماماتي البحثية الخاصة بالعمارة الاسلامية في اقليم "ما وراء النهر" (تلك المنطقة الجغرافية، التى دعاها العرب الفاتحون بهذا الاسم، عندما وصلوا الى بلاد التركستان (آسيا الوسطى)، وعبروا وقتذاك نهري "جيحون" و"سيحون" <آمو داريا، وسيرا داريا>)؛ اشعر بنوع من تماه عميق مع تلك الموضوعة المعمارية الاثيرة لدي. هل هذا الاهتمام، يرجع لكون قادة "قتيبة بن مسلم الباهلي" (669- 715م) فاتح بلاد ما وراء النهر، الذي بعثهم الحجاج امير واسط مع قتيبة وقتذاك، كان بعضهم "واسطين"، وبالتالي قد يكون <احدهم> من &"اسلافي"، بحكم كوني "واسطيا" بالمنبت"؟! ام ان باعث ذلك التماهي يعود الى خصوصية تلك العمارة المدهشة، عالية الابداع، التى ظلت بعيدة عن اعين وانتباه غالبية المهتمين العرب، الذين تغاضوا، بدون عذر مقنع، عن القيام بدراسات رصينة ومتنوعة تتناول &منجز العمارة الاسلامية في تلك الاقاليم الشرقية النائية؟ واياً تكن الاسباب، سواء كانت جادة ام ..."مازحة"، فانا عندما زرت ، شخصياً، تلك الامكنة واطلعت على عمارتها ميدانيا، في بداية السبعينات، تملكتني الدهشة والانبهار لقيمة المنجز المعماري المحترح في تلك البلدان، وتعدد مقارباته الابداعية، التى اضافت الكثير الى ذخيرة منتج العمارة الاسلامية ووسعت من "ريبرتوارها" المتنوع.&
لكني، وإن بدأت في تقصي وإدراك تلك العمارة ومنجزها الثّر، فان مفهومي لها (للعمارة الاسلامية)، يبقى لدي، غير مقتصر على تحديدات علم الجمال الكلاسيكي إزاءها، او مُقيد في الشواهد المادية الملموسة لنماذج تلك العمارة لوحدها، بقدر ما تولده مفاهيم معرفية عديدة، قد تكون متباينة في نوعيتها واختصاصها، كالمعارف البيئية والتاريخية والانثروبولوجية وعلم الاجتماع، وحتى الاقتصاد السياسي، تكون، عادة، حاضرة امامي، عندما اشرع في "قراءة" تلك العمارة. كما ان مثل تلك القراءة، تستوجب فيما تستوجب، معرفة تامة وشاملة &لمجموعة اجناس ابداعية متنوعة، مثل الفنون البصرية، والتزينية، والموسيقى الشعبية، والفن الشفاهي، تتداخل فيما بينها بفعالية لانجاز تلك "القراءة" الخاصة، التى بمقدورها ان تكشف، بموضوعية عالية، المنجزالتصميمي المبتدع. وباختصار شديد فان دلالة العمارة الاسلامية ومفهومها بالنسبة اليّ، اراهما في حضور "فرشة" مفاهيم معرفية وفنية واسعة ومتنوعة. &ومثما ارى العمارة الاسلامية بهذا المنظار، فاني مع اولئك الذين يثقون من ان النجاحات في جنس ابداعي معين، تؤثر ايجابيا في تطوّر اجناس ابداعية اخرى. من هنا، فان اهتمامي العميق، بفهم وتفسير نجاحات العمارة الاسلامية وانجازاتها في اقليم ما وراء النهر تحديداً، يتعين ان نجده إضافة الى حضور المنجز المعماري ذاته، فاننا نصادفه، ايضاً، &في تنوع انشطة المهارات الفنية الاخرى ونجاحاتها.
معلوم ان مدينتي "سمرقند"، و"بخارى" كانتا من اهم مدن اقليم ما وراء النهر. بل وكانتا لفترات طويلة عاصمتين في تبادل ادوار فيما بينهما لهذا الاقليم. اذ شهدت "سمرقند" <جوهرة> ما وراء النهر اوج نهضتها اثناء الفترة التيمورية (القرن الرابع عشر- القرن الخامس عشر)، في حين بلغت "بخارى" (بخارى "الشريفة" و"التقية"، كما كانت تدعي) قمتها اثناء الحكم الساماني (القرن التاسع بداية القرن الحادي عشر). ولعل النجاحات الكبرى التى تحققت في منتج الفنون المختلفة، عكست، بشكل وبآخر، نوعية الانجازات المهمة التى تم احرازها في العمارة في ذلك الاقليم، ما يستدعي الوقوف مليا عند تلك النجاحات، والتعرف عليها. فعلي سبيل المثال، تم عمل "اكبر" نسخة من القران الكريم، من خلال تحضير اكبر ورقة "عملاقة"، خط عليها بالخط "المحقق". وقد تسنى لي مشاهدة <تفصيل> تلك الصفحة في متحف "مجموعة ديفيد" Davids Samling في كوبنهاغن بالعاصمة الدانمركية، وهي متضمنة <سطرين> بابعاد 45× 98 سم. (انشر صورتهما مع هذا المقال). وهذان السطران، هما من صفحة ورقية بابعاد 155× 222 سم، تتضمن سبعة اسطر، هي اكبر ورقة لصفحة خُط بها القرآن في اي زمان ومكان. وقد تم نسخ هذه الصفحة في سمرقند، مابين 1400- 1405م ، وخط آياتها الخطاط "عمر اغتا"، وكرسها الى <تيمور> الفاتح.
واضح ان كتابة القرآن بهذه الصيغة، وبمثل هذه الابعاد الاستثنائية في مقاساتها، كان يتطلب من الخطاط مراعاة امور عديدة، بغية انجاز تحفته الفنية الرائعة والفريدة. فاختير خطوط " جليل محقق"، لتفيذ نوعية الخط. ووفقا للدارسين، فان "رأس" القصبة المستخدمة في الخط كانت، على الارجح، بعرض لاتقل عن 1 سم. وتشي عملية تحضير الورق بهذا الحجم وبمثل هذه الابعاد الكبيرة، بتقنيات ومهارات عالية يتعين ان تتوفر عند القائمين على "تصنيع" تلك "اللوحات" الورقية.&
لم تقتصر النجاحات الفنية، بالطبع ، على مجال الخطوط، رغم انها بقيت لفترات طويلة تعد ممارسة جذابة ومحببة لدى كثر من المصممين المحلين، خصوصا اذا علمنا اندماج &مفردة الخط، وتكاملها مع الكثير من النماذج المعمارية، كالمساجد، والمدارس ومباني الاضرحة التى اولى لها اهتماما زائدا في سمرقند ابان الفترة التيمورية. ثمة نجاحات ملموسة ومميزة طالت ايضا اعمال وانتاج "المنمنمات"، التى انتشر استخدامها وتصنيعها في عهود عديدة، مرّ بها اقليم ما وراء النهر، ولاسيما في الفترة التيمورية، التى انتجت مدرسة خاصة في تشكيل المنمنمات. معروف، ايضاً، ان "المنمنمة" ظهرت اول مرة، وفقاً لدارسين جادين، في بغداد، حوالي 1000م، لكنها انتشرت انتشارا واسعا حوالي 1200م. ويعمل على انتاج المنمنمة، وهي قلما تكون بابعاد اكبر من ورقة A4، فنانون محترفون ذو آهلية فنية عالية. انهم يعملون بصورة جماعية في ورش خاصة، تنتج المنمنمة، ويقود هذا الفريق الذي يتكون من مهنين مختصين بصناعة الورق، وخطاطين ومزوقين، ورسامين ومجلدي الكتب، فنان يكون مسؤولا عنها وتكون بعهدته مهام اخراج وتصميم وتحديد تكوين المنمنمة وتشكيل عناصرها، ويسهم اسهامة كبرى في رسمها وتحديد اسلوب ذلك الرسم. وتبقى اشكالية تحضير الاصباغ والالوان الداخلة في تزويق المنمنمة، من الاشكاليات المثيرة للنقاش في اوساط المهتمين. ويعتقد كثر من الخبراء، بان مصدر تلك الاصباغ المستعملة في المنمنمات، تعود الى معادن مسحوقة، كما ان مصدرها ايضا يعود الى نباتات متنوعة، وحتى ...حشرات! ويرى بعضهم بان الصبغة الصفراء، احياناً، &في منمنمات الهند، يمكن ان تكون مستخرجة من "بول" البقر! معلوم ، ايضاً، ان بريق الاصباغ ولمعانها الموظفة في رسم المنمنمة قد تتبدل، من آن لآخر، عبر مرور كل هذه الفترات الزمنية!.
في "منمنمة" تعود الى حوالي 1307 (محفوظة الان في جامعة ادنبرة ببريطانيا)، ومنقولة من كتاب <جامع التواريخ> لمؤلفه رشيد الدين الهمداني (1247 – 1318)، يظهر السلطان الساماني "ابو صالح منصور بن نوح" (961 – 76)، اثناء حفلة تتويجه في مدينة بخارى. وقد منح الرسام السلطان اهمية مركزية في تكوين اللوحة بوضعه في وسطها، محاط بالاميرات والامراء اللذين يشهدون هذه اللحظة التاريخية وبحضور حاشية منتخبة. وتبين خطوط رسم الشخصيات وملابسهم المشغولة بحذق ظاهر وبكثافة من الاختصار التشكيلي، على براعة فنية استطاع الرسام ان ينقل لنا مزاج الحدث "الوثائقي" الذي يسجله!
في منمنة اخرى باسم "سحب يوسف من الجب"، والتى تعود فترتها &الى حوالي 1560م، ومكانها &بخارى &(صفحة ورقية بابعاد 25× 16 سم، من مقتنيات متحف "مجموعة ديفيد" كوبنهاغن ، الدانمرك)، تظهر هذه المنمنمة "قصة يوسف"، القصة المشهورة التى جاء ذكرها في القران الكريم ايضاً. والمنمنمة مأخوذة من انطولوجيا "العروش السبعة" لنور الدين عبد الرحمن جامي (1414 – 1492)، الذي يعد ثالث شاعر في ايران بعد الفردوسي والنظامي، والذي عمل &في بلاط &السلطان التيموري " حسين بايقرا" (1438 -1506). وتعتبر قصيدته "يوسف وزليخا" في تلك الانطولوجيا المعروفة، من اشهر قصائده في عموم بلاد ما وراء النهر.
ينشد &فنان المنمنمة، التى نتحدث عنها، الى تقسيم سطحها الى قسمين اساسيين. يتناول القسم الاسفل منها (وهو، عادة، ما يكون القسم الاهم في المنمنمة، في تراتبية اهمية رسوم المنمنمات)، واقعة "سحب" يوسف من الجب، الذي رماه فيه اخوته، وهو يخرج سالماً ويجرّ الى الاعلى من قبل "تاجر" منقذ، ليباع بعدئذٍ في مصر كعبد. في حين يدلل القسم الاعلى من المنمنمة على لحظة صفاء "لاجتماع" اصدقاء التاجر المنقذ، وهم يستريحون من وعثاء السفر، ويتندرون بحديث يبدو مشوقاً عن ما جرى لهذا الشخص الذي انقذ توا من البئر. ثمة "ناقة"، في اعلى جزء من المنمنمة تلتهم عشبا، وبجوارها "ناقة" اخرى باركة، تمضخ بسلام ما التهمته سابقا!
يبدو، جليا، &تأثيرات الفنان الشهير "كمال الدين بهزاد" (1460 – 1535) او مدرسته، واضحة على مصور المنمنمة، وعلى اسلوب رسمها ونوعية شخوصها. لكن هذا، لا يقلل، كثيرا من جماليات وبراعة اللوحة المتحققة. انها مثل غيرها من الاجناس الابداعية الآخرى، تدلل على المستوى الرفيع الذي بلغته الفنون في حواضر ما وراء النهر، مشكلة في الاخير، "خلفية" وحافز لنجاحات معمارية تجلت بصورة واضحة في منشاءات تلك المدن، التى شكلت عمارتها يوما ما، وما فتئت تشكل، فخرا معماريا ومنجزا حقيقيا في منتج العمارة الاسلامية.&
معمار وأكاديمي
&